كتابات

النتائج المأسوية في لعبة مصادرة الأسباب

المواطن/ كتابات – قادري أحمد حيدر

الإهداء: إلى الصديق والرفيق المناضل/ عيبان السامعي.
صورة زاهية مشرقة لمستقبلنا المرتجى في السياسة والفكر والبحث العلمي. هو حقا قيمة مضافة في كل شيء تذكرنا بما قصرنا.

مع خالص مودتي ومحبتي.
إن ما يلفت انتباهنا ونحن نطالع ونقرأ ما يكتب من قبل البعض في وسائط التواصل الاجتماعي، أو ما يتلوه ويلقيه علينا بعض “المحللين الاستراتيجيين”، وخبراء السياسة، من خلال القنوات الفضائية حول قضيتي الحرب والسلام ، هو عدم تمييزهم بين الأزمة/ المشكلة: أسبابها، مقدماتها، خلفياتها، وبين النتائج الكارثية المأسوية التي آلت إليها الأزمة/ الحرب، وبذلك نجد أنفسنا نعود دائماً إلى المربع الأول من سؤال الحرب والسلام.
والسبب، في تقديرنا، أن هذا البعض يقفز على الحقائق والوقائع، محلقاً في سماء التجريد السياسي الذهني. ومن أن هذا البعض لا يفرق بين الجذر السياسي الاجتماعي الطبقي الأيديولوجي للأزمة، وبين أعراضها وتمظهراتها كنتائج للعل / الأسباب ، أي علاقة العلة بالمعلول ، والسبب بالنتيجة. وهي من جهة، واحدة من مشكلات استمرار السجال الفكري/ السياسي الدائر اليوم حول الحرب والسلام ، ومن جهة أخرى، أحد أسباب استدامة الحرب بلا أفق للحل، حيث يطيل بعض الكتاب عادة الإقامة عند خرائب النتائج وهو ينتدب نفسه لتقديم المعالجات والحلول، ولذلك تأتي قراءاتهم ومعالجاتهم وحلولهم متعسفة أو مبتسرة وناقصة، لمصادرتهم لجذر أسئلة السياسة والحرب. ذلك أنهم مستغرقين حتى العظم في لعبة الاستثمار السياسي للكوارث كنتائج، مهملين ومتجاهلين عمداً الأسباب الشارحة والمفسرة لها.

إن الفكر الفقهي الاسلامي في تجلياته العقلانية الموضوعية يؤكد على “السببية” في كل مناحي الحياة، أي أن الله سبحانه وتعالى “قد جعل لكل شيء سبباً” . ولا نعرف هنا لماذا يجتهد البعض في محو الدلالة السببية للأشياء التي تدل عليها ، وتشير إليها ، وتوضح معناها!!
إننا حين نفصل الكوارث الإنسانية عن سياقها الموضوعي الملموس، وعن ملابسات انتاجها، وظروفها التاريخية، فإننا بذلك لا نعمل ونمارس سوى التعمية على الحقيقة المطلوب كشفها ومعرفتها ، والأهم إعلانها للناس ليكونوا على بينة مما يجري..
وهذا يذكرني بالحديث الصارخ المحموم والمسموم حول السلام العالمي –إبان الحرب الباردة وحتى اليوم- وضرورته، ومن أن السلام العالمي اليوم في خطر الانزلاق والانهيار إلى حرب كارثية مدمرة، سواء في صورة حرب الفقر والجوع والمجاعات وتدمير البيئة، أو في صورة التهديد بخطر وقوعنا على حافة حرب نووية محتملة، دون أن يحددوا أسباب ودوافع ومكامن ذلك الخطر: من يقف خلف احتمالات إنتاجه؟! والأهم، دون الإشارة إلى ضرورة وحتمية إصلاح وتغيير نظام العلاقات الاقتصادية الدولية غير المتكافئة، وضرورة إزالة الفوارق الاقتصادية الهائلة بين الدول الغنية ( العشرين) والدول الفقيرة النامية التي يتسع واقع خرقها على واقع انتشار الجوع والمجاعات والفقر.
إن التشدد اللفظي باحتمال انهيار السلام العالمي -وهو صحيح خاصة مع صعود ظاهرة اليمين الصهيوني المسيحي/ تعبير عن رأسمالية إمبريالية متوحشة- دون قول الأسباب التي تقف خلف إمكانية حدوث ذلك التدهور والانهيار في حالة السلام العالمي، هو قول لا يساهم في تقديم معالجات ولا حلول، بقدر ما يشير من بعيد إلى الكارثة فقط، أي توظيف سياسي لشعار السلام في حين لا يمل كل صقور الرأسمالية والحروب من الحديث عن ضرورة الحفاظ على السلام العالمي ولعل ما يجري في العديد من الدول الأوروبية والأمريكية اليوم خير شاهد على ما نذهب إليه.

أليست قضية ” الضواحي” -كما يشير المفكر الفرنسي “تيري ميسان”- في فرنسا وأمريكا وغيرها واحدة من علائم ومؤشرات الأزمة الماثلة في تراجع نمو “الطبقة الوسطى” وبداية تآكل مصالحها، الذي تعبر عنه الاحتجاجات الجماهيرية الواسعة في أكثر من مكان في الغرب الرأسمالي، ثم أوليس قضية ” المهاجرين” أحد تعبيرات انهيار ذلك السلام ؟! أليس عولمة الفقر عبر السياسات الاقتصادية واحدة من مؤشرات ذلك الانهيار للسلام العالمي ؟! هكذا في تقديرنا يكون البحث عن مداخل لإنتاج سلام عالمي.

إن إطالة إقامة البعض عند خرائب النتائج المأساوية للحرب القائمة في بلادنا –أو في أي مكان- دون بحث في الأسباب والمقدمات والخلفيات، كمن يقول “لا تقربوا الصلاة”، أو كمن يقول مبتدأ الجملة الأسمية ويمنع تثبيت خبرها.

فعلى سبيل المثال، إن أردت اليوم أن تقرأ واقع الفساد، أو أزمة التعليم وتدهوره وانحطاطه وحالة التردي في مخرجاته، فهل المدخل إلى ذلك الوقوف باكيا، وشاكيا الحالة الكارثة القائمة للتدهور والانحطاط في الوضع التعليمي أو البكاء على اطلال جرائم الفساد؟!. إن المدخل لذلك هو البحث في العلل والأسباب ، والمقدمات لتردي، وتدهور كل ذلك: الفساد في التعليم وكذلك الأمر في الصحة وفي غيرها مما يعد من المهام والوظائف الرئيسية لمبرر وجود الدولة.

إن التفكير المنطقي السليم(الواقعي) يقول لنا إن أردت أن تبحث التردي والتدهور والانهيار في أي شيء كان، -التعليم على سبيل المثال- فابحث في مدخلاته ، أسبابه خلفياته، إبحث في طبيعة النظام السياسي القائم، مصالح أي شرائح / طبقات يمثل اقتصاديا واجتماعيا؟ ماهي موازناته للتعليم، والصحة ، والخدمات الاجتماعية الأخرى؟حينها ستفهم تقدم أو تردي التعليم في هذا المجتمع أو تلك البلاد.

إبحث عن قضية كيفية توزيع الدخل الوطني اجتماعياً وما هي علاقته بقضية العدالة الإجتماعية؟! إبحث عن علاقة النظام بفكرة وقضية المواطنة وكيف ينظر إليها ويحسبها سياسياً ووطنياً ؟! ما علاقة النظام بالملكية الإجتماعية؟ ما علاقته بظاهرة الفساد الاقتصادي والسياسي؟ وهلم جراء.

إن كل ذلك ستجده كامنا وماثلا في السياسيات الاقتصادية- الاجتماعية للحكومة والنظام السياسي الذي احتكر السلطة في يده وزبائنيته والذي حول الدولة إلى مجرد سلطة في خدمة الرئيس (دولة للرئيس/ وليس رئيساً للدولة). ومثل هذه الأنظمة هي التي قامت بإلغاء دور الدولة الراعية والحامية للمجتمع متحكمة بميزانيات الدولة بما يشبع نهم طبقة الحكم والزبائنيه المحيطة بها ، وعند هذه اللحظة/المرحلة يتقدم شرط الحرب على السلام الاجتماعي الانساني المنشود .

إن أزمة كارثة التعليم قائمة وماثلة في تراجع ميزانيته إلى أقصى حد لصالح الفساد والحرب، وبالنتيجة تراجع مجانية التعليم التي هي إحدى ثمار الثورة اليمنية، 26 سبتمبر /14 أكتوبر.. من بداية الثورة اليمنية كان التعليم مجانياً، وتمثل دعم التعليم في بناء المدارس والمعاهد التعليمية والمهنية-لاحقاً- وفي تقدم محتوى التعليم واستجابته لتحديات العصر- نسبياً- وفي تقديم مساعدات مالية للطلبة الفقراء ومحدودي الدخل، وفي تجمعات سكنية للطلاب الفقراء وأصحاب الاحتياجات الخاصة، حتى تقديم تغذية يومية للطلاب في التجمعات السكنية الحكومية، (الأقسام الداخلية). وكان هذا قائما إلى النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، قبل مجيء علي عبدالله صالح للحكم.
ومن بحث هذه الأسباب والمقدمات، نفهم واقع تراجع المناهج التعليمية وتدهور وضع المعلم إلى الحضيض، وتوقف بناء المدارس وتدهور ما هو قائم، وقصر البعثات التعليمية، لغير مستحقيها. وتلغيم مناهج التعليم بكل ما هو معادي للعلم والتعليم والثقافة، وشيوع فكر تكفيري/ تخويني في جميع مناهج التعليم من الابتدائي إلى الجامعي…هكذا نقرأ أسباب ومقدمات كارثة التعليم بالعودة إلى الأسباب المولدة والمنتجة للكارثة وليس البكاء على إطلال الخرائب المأسوية.

إن الفكر الفلسفي والتفكير العلمي السليم يحرضنا دائما ويحثنا ويدلنا على أهمية وضرورة البحث في الأسباب والعلل والمقدمات حينما نبحث عن معالجات وحلول أو تسويات لأي ظاهرة أو مشكلة لأن ذلك وحده هو مدخلنا لتقديم معالجات وحلول منتجة قابلة للاستدامة والحياة.

في تقديرنا، ليس هناك سبب واحد يقف خلف أي حرب، هناك أسباب عديدة تختلف مستوياتها: رئيسة / أساسية (تناقضية) وثانوية / فرعية عارضة، ومن المهم معرفة تفاصيل كل ذلك والتفريق فيما بينها لتحديد اتجاهات الصراع وواقع الحرب في كل حالة على حدة، ومصالح من تخدم/خدمت الحرب لحظة انطلاقتها؟! وكيف هي مسارات مآلاتها في تطورها اللاحق ومن أجل ذلك من المهم للباحث أن يجتهد في الكشف عن الرئيسي في جوهر الصراع من الثانوي فيه. ذلك أن بداية انطلاق أي حرب ليست هي بالضرورة أن تعكس مصالح الجماعة المعنية التي قامت بها في خاتمة الصراع .

ففي سياق الحروب تستجد تفاعلات ومصالح داخلية وخارجية (إقليمية/دولية) قد تجعل حسابات من بدأ بها وفجرها على عكس ما كان يتمناه ويرجوه. فعلى سبيل المثال في الحرب الجارية، كان الرئيس السابق علي عبدالله صالح هو أساسها وعمادها و”أنصار الله” العامل الثانوي المساعد، الذي كان يسعى صالح لـــِ”التوطف” بهم في هذه الحرب. على أن الآية اختلفت، وانقلب السحر على الساحر في مجرى الحرب، وفي كل الاتجاهات وبين كل الأطراف . فالمتحكم اليوم في الحرب الجارية من الطرف النقيض “لأنصار الله” الحوثيين ليس هي الشرعية، بل السعودية والأمارات واللاعبين الدوليين الكبار. هذا، ناهيك عن أن الحرب لم تعد في حدودها الوطنية والإقليمية المحدودة، وإنما صار الخارج(الاقليمي/الدولي) بسبب انقسام وضعف الداخل منا، هي الأقوى والمقررة، في معادلة حقائق الحرب الجارية. نقول ذلك بوضوح بعد أن استقالت الشرعية عن الكثير الكثير من دورها السياسي والوطني، لصالح الخارج.

وليس صحيحاً البته ما يقوله البعض من أصحاب النوايا الطيبة ومن دعاة السلام الحقيقيين من أننا لم نخض غمار العمل السياسي الحواري، ومن أننا لم نجرب أن نذهب إلى الحوار والعمل السياسي السلمي.. فقد ذهب البعض منا إلى الوحدة بنوايا وطنية طيبة وبصورة سلمية وديمقراطية، متناسين تاريخ الحروب البينية، تحت شعار “الوحدة تجب ما قبلها” ومرددين البيت الشعري الجميل إذا احتربت يوماً فسألت دماؤها، “تذكرت القربى ففاضت دموعها”، ومع ذلك، انقلب عليها من يرفضون انجاز مشروع الدولة الوطنية الحديثة، ثم ذهب الناس جميعاً وقطاع واسع من الأغلبية السياسية المدنية إلى “وثيقة العهد والاتفاق”. وكان ما كان من فرض خيار “الوحدة بالحرب”.. ثم كان الانجاز السياسي والوطني في صيغة “مخرجات الحوار الوطني” التي شهد عليها وعمدها المجتمع الدولي والاقليمي، وتم إجهاضها بالحرب ألم يكن ذلك حواراً؟! بلى!.
إن حلم الناس بالسلام على قاعدة الحوار هو الأصل الذي يتشوق إليه الأغلبية العظمى من اليمنيين. غير أننا أمام مشروع تاريخي يأبى المغادرة ويتشبث بتلابيب روح الجديد لتعويق ظهوره وانطلاقته، وهو استمرار لمعانده تاريخية ما تزال تقاوم بزوغ فجر المستقبل. وفي تقديرنا، أن ذلك سيكون دون جدوى، وسيبزغ فجر المجتمع والدولة المدنية الوطنية الحديثة من قلب تلك المعاندات والمكابرات.
السلام حلم اليمنيين جميعا مخصوما منهم جماعات المصالح الصغيرة، وتجار الحروب، من أي جهة كانت. على أن هذا السلام يجب أن يتشكل على هيئة حركة سياسية اجتماعية تاريخية باتجاه فرض مشروع الدولة بالقوة على جماعات أصحاب المصالح “الهوياتية”، وعلى تجار الحروب، على طريق إنهاء الحرب، وليس إيقافها مؤقتاً وهو ما تعودنا عليها تاريخيا من الحروب القديمة، إلى حروب الستينيات وباسم “السلام” وايقاف الحرب ، وحتى الحرب الجارية، وجميعها كانت ايقاف مؤقت للحروب (هدنة) واستراحة محارب.

إن هكذا منطق للحلول يجب أن يتوقف وينتهي. إن حلمنا بالسلام اليوم يعني إسقاط مشروع “العصبية” في صيغة ما تبقى من “دولة المركز التاريخية”، ونقض ثقافة “المصالحة” على طريقة “تبويس اللحى” ، أو المحاصصة الطائفية أو المناطقية، لنجد أنفسنا كرة أخرى أمام حروب مديدة مستدامة أعنف وأقسى.
هذا ما نستخلصه من تجربتنا مع قضيتي الحرب والسلام.

إن نتائج الحرب القائمة لم تخلق فجأة ولم تنزل إلينا من سماء الغيب المجرد “بالبرشوت” .. وقطعاً لم تصنعها السياسات السلمية الحوارية التوافقية التي كانت قائمة قبل الحرب، وكان من نتائجها “مخرجات الحوار الوطني الشامل” التي حملت في نصوصها مداخل سياسية عملية وتاريخية لحل أهم مشاكلنا القديمة / الجديدة، على طريق دولة وطنية ديمقراطية اتحادية يتم التوافق على عدد الأقاليم فيها. كان مقدراً لتلك المخرجات أن تبدأ بالفعل إلى أن كان الانقلاب والحرب.. فلولا العقل السياسي التدميري والانتقامي والثأري المكبوت والقابع في رأس ووجدان الرئيس السابق علي عبدالله صالح، تحديداً وخصوصا، لما وصلنا إلى ما نحن عليه من دمار وحرب. والباقي كله، في تقديرنا، تفاصيل مملة للعلة والسبب الذي قد نجد الكثير من تفسيره في هيمنة “عقل المركز العصبوي” الذي ما يزال ينتج تداعياته في كل ما يجري اليوم، في تنويعات بسيطة على الأصل الاستبدادي التاريخي الذي كان ، والذي ما يزال يحلم بأن يكون .. لذلك نقول دائما، يجب أن يتقدم سؤال العلل والأسباب ونحن نبحث عن معالجات وتسويات وحلول لجميع مشاكلنا الراهنة والمستقبلية، وصدق قوله سبحانه وتعالى ” ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكراً إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا” صدالله العظيم/ الكهف”84″.
والسبب في الآية هنا حسب تفسير الإمام محمد بن علي الشوكاني في “الفتح القدير” بمعنى الوسيلة، وبمعنى السبب، انظر الجزء الثالث ، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت ، ط(2)، 1964م، ص308.

إغلاق