كتابات

المكلا وشفا الهاوية

ريبون / كتابات

كتب / د. أحمد باحارثة

تفترق مدينة المكلا عن نظيرتها مدينة عدن أن هذه الأخيرة لا تتحول من وضع سياسي إلى آخر، أو من دولة إلى أخرى إلا بعد احتراب، يؤدي إلى موت وخراب، بعكس جارتها مدينة المكلا التي ما أن تصل إلى شفا الهاوية، أو إلى حافة الاحتراب حتى تسقط، وتسلم نفسها للمنتصر الجديد، والفاتح المجيد، أيًا كانت هويته أو نيته، وذلك منذ أن صارت من المدن الكبار ومطمحًا للأنظار.

 

وقد اكتسبت المكلا صفتها كعاصمة ومدينة كبيرة منذ أن اتخذها نقباء آل كساد عاصمة لدولتهم في القرن الثامن عشر، ولم يشهد حيازتهم لها حربًا أو كربًا، بل لقد شرَوها بثمن بخس دراهم معدودة من العكابرة الذين كانوا فيها من الزاهدين، واستمرت دولتهم بها إلى أن ظهر على مسرح الأحداث منافسهم القعيطي الذي طمح إلى المكلا وأراد أن يستخلصها لنفسه.

 

وفي نهاية أكتوبر سنة 1881 بدأت الاستعدادات لمعركة استيلاء القعيطي على المكلا، بدعم من البريطانيين الذين أتوا ببارجتين لمحاصرة المدينة، وشحن الكسادي حصونه في المكلا وبروم بالرجال والعتاد للمقاومة، لكن ما أن اشتدت المعارك في بروم وبدأت تقترب من المكلا حتى رفع الكسادي الراية البيضاء، وبهذا سلمت المدينة بعد أن كانت على حافة معركة مفترضة، قطع دابرها انسحاب النقيب عمر الكسادي وامتطائه سفينة غادرت به وأهله، وبعض رجاله؛ ليستقر في الساحل الإفريقي.

 

آلت المكلا بسلاسة إلى حكم السلطان القعيطي، الذي اتخذ بدوره المكلا عاصمة لسلطنته، التي استمرت قائمة منذ ذلك التاريخ حتى منتصف سبتمبر سنة 1967، حيث أتى دور آخر سلاطين تلك السلطنة للتسليم، بعد أن تمكن الثائرون عليه من تحييد قواته العسكرية، مستفيدين من غيابه خارج المكلا، ولدى اقتراب السفينة التي كانت تقله من ميناء المكلا وجهت إليها أفواه المدافع، وصعد عليها مجموعة مفخخة لإنذار السلطان غالب بالاستسلام، والتنازل عن الحكم بسلام، وهو ما حدث، فنجت بذلك المدينة من فتنة كان يمكن أن تحدث إذا جرى تفجير السفينة.

 

وكما انتهت الإمارة الكسادية برحيل آخر حكامها على ظهر سفينة، كذلك انتهت السلطنة القعيطية برحيل آخر حاكميها على ظهر سفينة، ومنذ ذلك الحين غادرت المكلا حقبة الحكم الوراثي إلى حقبة الحكم الثوراتي.

 

وفي هذه المرحلة مرت المكلا بتطورات متعددة نجت من منعطفاتها الخطرة، بدأت بسقوط المدينة في أيدي القوات الشمالية بعد حرب تمددت على الخارطة الجنوبية حتى انطفأت فتيلتها بمجرد وصول دخانها إلى أطراف المكلا، في بداية يوليو 1994، مع أن رأس حربتها قد اتخذها مقرًا لإقامته، وحشد العتاد لحمايته، لكنه لوى سريعًا حتى أحس بالأمان بدخوله عمان، وبعد أن ضج ساكنو المكلا بالدعاء، استسلمت في يومها لشرعية دولة صنعاء، ربما لأول مرة في تاريخها.

 

وفي شهر إبريل من عام 2015، ورغم المعسكرات المتعددة المدججة المحيطة بالمدينة، سقطت المدينة بكل يسر في يد المرابطين الملثمين، الذين تردد وسمهم ما بين أبناء حضرموت وأصحاب القاعدة، ودخلت المدينة لعام كامل في أحد عوالم ألف ليلة وليلة، وإلى زمان حمار جحا والقاضي قراقوش، وكثرت فيه القروش والنعوش، وعاشت في وضع مرعوش.

 

وبعد أن دار عليها الحول، وفي الشهر نفسه من العام التالي، أي إبريل سنة 2016، قررت الدولة بمساعدة خليجية تحرير المدينة من تلك الجماعات المسلحة التي أرهبت الأهالي باستعدادتها للاستماتة في إبقاء المدينة تحت حكمهم، وبدا الأمر أن معركة طاحنة ستجتاح المدينة، واستحضر البعض حال المدن المناظرة التي كانت تحت حكم جماعة متطرفة، كما في موصل العراق أو رقة سوريا، وما دهاهما من خراب وفناء، لكن ما أن مرت ليلة وضحاها من هجوم القوات الطاردة حتى خلت لهم المدينة، واختفت أي مقاومة ضدهم.

 

فتلك خمس أو ست جولات مرت بمدينة المكلا المحروسة، تصل عند طرف كل جولة إلى شفا الهاوية، وإلى نذير حرب دامية، حتى يظن أهلها أنهم غير قادرين عليها، وظنوا أنهم قد غلبوا على أمرهم، وبلغت قلوبهم حناجرهم، ووضعوا أيديهم على خناجرهم، فينجلي عنها الغبار، دونما موت ولا دمار، ويسلم البشر والديار، وتستكين المكلا لحاكمها المستجد، لكن دون أن تعطيه ولاءها، بل تسلقه بلسانها، ثم تعد له الأيام لجولة مستجدة، كالمرأة المعتدة.

إغلاق