كتابات
في ذكرى الرحيل الثالثة … وصايا الحضرمي الدائمة
ريبون / كتابات
بإمكانك أن تمر جوار التلفاز , بوسعك أن تنتقل بين قناتين , أن تدعو نديمك للاستماع إلى أغنية جميلة , شريطة ألا يكون شاغل الأثير أو الرجل الذي على الشاشة أفلجاً , أسود الشعر مرسله , أعسرا يمسك عوده بالشمال حال جلوسه , واقفاً مهيباً كأن أكثم بن صيفي احترف الغناء , يمكنك دائما أن تستمع الى الموسيقى وحيداً أو على طاولة العشاء , لكن ليس أبداً حين يكون الصوت صوت موكب مهيب قادم من بعيد كصوت أبوبكر , ليس أبداً حين يصدح رجل بسبعة أصوات وخمس هيئات ويد حين تلقي العود تدوزن الايقاع وتقول للجمهور : هاكم هذا السطر كي تشاركوا في الاحتفال الكوني , غنوا وقوفاً , اجلسوا واقفين , كونوا منتصبين حتى أنتهي من وصايا الكمال .
لايلام على الانتساب إليه أحد , فقد كان وحيداً تماماً في القمة وإن ترك خلفه ستة من الأبناء , كان كأول حروف اسمه وأول حروف أسماء أبنائه الستة , كان الألف في أول النوتة , وكان أباً للفرقة حتى حين يعطيها ظهره العريض , وبكراً في ثلاثة لاينازعه فيها أحد : شاعراً قبل الطرب , ملحناً داخل الأغنية , ومطرباً رغم أنف الوزن والقافية , بموته نعي إلينا بحر الكامل في الأغنية العربية الحديثة.
ولد في مدينة حكمها حكم المسجد , فلا يدخلها منتعل , لذا أتم أول البقرة حتى ياسين , وأتبعها بالصافات حتى قال أعوذ برب الناس , ومن ثم تناول النحو حتى أتمه وعلمه لثلاث سنين , فاستقام لسانه استقامة من انتسب إلى بلفقيه , في الوادي تتبع أول السيل حتى قبله مع الصبية في حضرموت , ومن أسواق المكلا أزهرت ألوان فوط البساطة في عينيه , ومن دوعن تحلى بالعين وباللسان , ورأى في شبام ناطحات مانهاتن الصحراء, فكيف لايغني حين شكك الناس في انتسابه لأهله مرددا مؤكدا في نهاية كل جملة لحنية : وانا .. من الغنا مدينة حضرموت !
أصابه ما أصاب الناس من تقلب الأحوال في النصف الثاني من القرن العشرين , فهاجر – عادة أهله الحضارم – أول ماهاجر في سن الرابعة عشرة الى نجران بحثا عن لقمة العيش , شده حنين الواحة فما أتم الشهرين هناك , عاد الى حضرموت , نبا علم غناءه لأهله فأصابه ما يصيب الحيي الخجول – وقد كان كذلك طول حياته رحمه الله – فتلطف بمديح سيد الخلق أحمد , وذاك من محمود الفعال , حتى زاد الدف وضبط الايقاع , ثم كان العود في عدن , ومن لم يغن في عدن فما رأى الدنيا ياناس , لذا حين غادرها بكى وانتحب من غدر الزمان , تخيل الحضرمي الذي جرب أحوال الدنيا كل معقول , اللهم إلا أن يفارقك يا عدن .
ساقه لطف المقادير الى لقيا المحضار على قبريهما اليوم شآبيب الرحمة ولطف الرحمن , فوجد في رقة شعره رائحة الوادي ونسيم آخر الليل بين نخيل البلاد , لم يكن المحضار شاعرا فحسب , بل كان جامعة الفنون الحضرمية لمن فاته الدرس , شاعر يصيبه الايقاع قبل الكلمات , يدوزن بعلبة الكبريت والنقر على الكف حتى يسلم اللحن إلى فرقة اسمها أبوبكر , ولم يكن على أبو أصيل إلا أن يقحم صوته في الكلمات , فيقطعها ويجمعها ويلونها ويرسمها , تارة بسحيق القرار الذي لايهتدي إليه سواه وأخرى برفيع الجواب حتى يخال المستمع المدهوش أن كورالا مضمر الحد قد صعد إلى مئذنة القرية , وحين يمسك المخرج بالكاميرا وأبوبكر على المسرح فقد انظلم الحاضرون ورب البيت , تأملوا حفلاته من عدن إلى مسقط ومن أبها الى ابوظبي , هذا رجل يسرق النور من جوف العيون , ليمنع المخرج من حالة سوى دهشة الوقوف متطلعاً إليه .
أحب الشعر حب العربي للضيف , مامن لقاء تلفزيوني إلا ويضيف إلى أذنك بيتين من شوارد المعنى , لم يلحن يوما , لا في فصيح ولا في عامي , ومن أنكر على أبوبكر شيئا فلا يلومن إلا أذنه .
صعد صنعاء بعد الوحدة فمارس لعبة اليمنيين في حل الأحاجي داخل الأغنيات , وتلك من ألعاب القوم في سعيد أيام اليمن السالفة قبل احتراب القوم وتحريم الفنون في سائر جزيرة العرب :
أحبة ربا صنعاء عجب كيف حالكم ….. وهل عندكم ما حل بالعاشق المضني
وهل تذكرونا مثلما ذكرنا لـكــم ….. وهل تسألوا من جاء إلى أرضكم عنا
لأنا وحق الله من شوقنا لكــم ….. نسائل نجوم الليل عنكم إذا جنـى
فلو تنظروا المملوك يرعى خيالكم ….. ويسمع من صوت الحمام كلما غنى
ولم يكن المرحوم أجوفا يغني لأجل المال , ولا طالب شهرة يتمايل ميل الفارغين , بل كان – كعادة الحضرمي أينما حل – صاحب معنى ورسالة , حكمته صافية المنبع , فياسهران تختصر توكل الحضارم أينما كانوا , والبيع والشراء حاضران في طرف كل أغنية لمن أرخى السمع , فلا هو بالذي يشتري بالود من باعه , ولا هو بالباخس ثمن العنب إن باعه أهله , ولا هو مخطيء ميزم النبوط إن رام غزالة من ظباء اليمن , وهو كثير التحنان , كثير تصريف هذا المصدر لمن تتبع فنه , فحين غزاه الشيب نادى نداء يعقوب قارعاً سنه :
وا ويح نفسي
لا ذكرت أوطانها حنـّت
حتـّى و لو هي في مطرح الخير رغبانه
و على الموارد لا جت للشـّرب تتنغـّص
قدها مقاله
شرب النـّغص يتعب الإنسان
وإن طال سكوت الحضارم , فما ضر قوما صمتهم إن كون صوتهم للدنيا صوت بن سالم , من شال أعراسهم , وخلد مخارج حروفهم , فأبعد عنهم تهمة البخل والحرص , لعمري لقد أطرب ابنكم كل حي فتيهوا على غيركم , وقد أجلس ابن محفوظ على الأرض حتى أمسك برأسه , وصير ابن عبده كورالا في جلسات روتانا فما اسطاع إلا أن يقول سبحان من خلق صوت هذا الشيبة العظيم .
ولايحزنن أحدكم إن قرأ في تعريفه غير أمه والغنا , فالحضرمي ابن كل أرض ذكر فيها اسم الله , وهو الأمين على المال قبل اللحن , والوفي للصاحب , وصاحب الحكمة والمشورة , ولو لم تسر الركبان بشيء من كلامكم إلا بعض وصايا ألمرحوم في تسلى ياقليبي أو مقطعا من مقاطع ياسهران , لكفاكم شاهدا ووكيلا:
يا سهران اهدأ ونعم قلبك لا تحمله هم
المكتوب واللي انقسم بيأتيك من حيث كان
الصدق , التوكل , ألا أعود لمن باعني , وحقيقة أن الدنيا مخلاة , وكم من مال يمسي لمولى غير مولاه , وأخيرا أن أمدح سيد الخلق في حضرة من يفهم , مولوداً في تريم أو مدفوناً في الرياض , فتلك رسالة الحضرمي أينما انطلق صوت أبوبكر وغنى سيدي المحضار .
محمد ديريه
طبيب وكاتب صومالي
نيويورك
النص منشور في مجلة الفيصل
يناير – فبراير
٢٠١٨م