كتابات
الدور السياسي للقبيلة في حضرموت
ريبون / كتابات / د. أحمد باحارثة
بعض الدول أو الأقاليم ذات العراقة التاريخية تشكل التركيبة السكانية محورًا رئيسًا من حياتها السياسية، وليس هذا الأمر مقتصرًا على التاريخ القديم وحسب، بل يمتد إلى حاضر عالمنا اليوم في كثير من البلدان، ومن بينها حضرموت، فهذه المنطقة لونت حركة القبيلة طيفها السياسي في كل مراحلها التاريخية، بما يشمله من قيام دول عشائرية وراثية وانهيارها، ومن صراعات ومنافسات بين كبرى القبائل وطموحات زعاماتها، ومن حروب طاحنة تشهدها مناطق التماس لمثاوي تلك القبائل، ثم إن لكل قبيلة طبائعها التي رسختها طبيعة المهام التي يتولاها أفرادها، أو طبيعة المنطقة التي تسكنها، ما بين أودية وجبال، أو صحار وقفار، أو سواحل بحرية، وحضرموت تشمل كل تلك التضاريس بحكم موقعها الجغرافي ومساحتها الواسعة.
ومن أولى القبائل التي وجهت مسار الحياة السياسية بحضرموت قبيلتا كندة وحضرموت، التي كان لكل منها مواضع نفوذها وسلوكها السياسي وموقفها من الأحداث التي تمور من حولهم، وأبرزها آنذاك أحداث حقبة ظهور الإسلام وانتشاره، وما ترتب عليها من وفادة ثم حروب ردة ثم المشاركة في حركة الفتوحات الإسلامية، تلتها حقبة الخلافتين الأموية والعباسية وما تخللها من أحداث جسام كان أبرزها الموقف من سلوك ولاة الدولتين الأموية والعباسية نحو الحضارم، والمشاركة في تفاعلات الطوائف الخارجة عليها وعلى رأسها الإباضية التي نفذ منتسبوها ثورة مسلحة عارمة انتهت بهزيمة منكرة وعانت حضرموت سنينًا طوالا من ويلاتها.
ثم نشأ بحضرموت في حقب لاحقة أدوار لقبائل أخرى كان لها تأثير كبير في مجرى التقلبات السياسية بحضرموت، وكانت غالبًا في صراع مع خصومها المحليين من القبائل المنافسة، أو في صراع مع الدخيل الغازي سواء كان عربيًا أو أجنبيًا، وهو صراع تذبذب ما بين المواجهة أو التحالف المؤقت، أو التعاون الكيدي لغرض ضرب المنافس المحلي.
وكانت تلك الصراعات بين القبائل المحلية تزداد ضراوة وتتشعب انقسامًا في فترات ضعف النفوذ لليمن الأعلى وانحساره عن حضرموت، ويحدث ذلك عند غياب الحاكم القوي، أو انشغالهم بالقتال في ما بينهم في أوقات الفتن وعدم الاستقرار، فبذلك تنشغل القبائل الحضرمية بنفسها، وتتصارع لملء الفراغ وتنهي إلى فراغ، فلا هذا يسيطر، ولا ذاك يتحكم، حتى يعود المد اليمني مجددًا إليها فتنشغل به إذا شعرت بثقل سطوته، وهنا يأتي قول المؤرخ محمد عبد القادر بامطرف بأن حضرموت ظلت “تصارع الأقدار، وكأن لم يكن لأهلها إلا الاقتتال فيما بينهم، والاقتتال مع الآخرين”.
ومن أبرز القبائل التي لها أدوار سياسية حديثة سواء بإقامة دول أو بالعمل على إسنادها أو مشاغبتها، قبائل آل كثير، ويافع، وآل تميم، والحموم، والعمودي، وسيبان، وفي البداية كان الصراع أكثر ما يكون محتدمًا بين آل كثير والعمودي، ولكل منها دولته، وهو صراع حرمت معه مناطق وسط وغرب حضرموت من نعمة الأمان، وتسبب في خراب بعض مدنها، والتنكيل بأهاليها، وهو أيضًا صراع لم يخل من تدخل أياد فيه من خارج حضرموت عربية وأجنبية، فدولة الكثيري كانت موالية للأتراك العثمانيين، بينما الأخرى والت حكام شمال اليمن، وساندت قدوم قواتهم إلى حضرموت نكاية في منافسها الكثيري الذي اضطر هو الآخر إلى الخضوع لهم ردحًا من الزمان، واستمرت دولة العمودي قائمة حتى استيلاء آل يافع الكساديين على مناطقهم في دوعن، ثم ورثه فيها اليافعي القعيطي الذي حول السيادة في دوعن إلى زعامات من قبائل سيبان.
كما تمكنت عشائر يافع من احتواء دولة آل كثير، ثم إنهائها، لكنها لم تتمكن من توحيد عشائرها في دولة موحدة، بل تكاثرت خصوماتها وطالت وحولت مدن بل وأحيائها حضرموت إلى إقطاعيات وما صاحب ذلك من اضطراب عام، وفي ذلك يقول المؤرخ محمد هاشم بن طاهر: “لو أن هؤلاء المتغلبين يقصدون تأسيس دولة يافعية قوية الشكيمة تملك البلاد وتحكم العباد، وتطمح إلى إقامة سلطان عام يسوس القطر عدلاً أو جورًا، لما قلنا باضطراب الاتجاه السياسي إذ ذاك”.
حتى ضج الناس من تلك الفوضى وذلك الشتات، فنهض عقلاء البلاد وسعوا إلى إعادة إحياء دولة آل كثير، لكنها لم تستطع التمدد كسالف عهدها، وتمكن أحد عشائر يافع وهو القعيطي من إقامة دولته، ثم عمل على تحجيم دولة آل كثير الثانية في جزء محدود من وادي حضرموت، لكن شمل أهم مدينتيه سيوون وتريم، وبذلك انقسمت في مطلع تاريخها المعاصر إلى دولتين عشائريتين متعاديتين، وهنا يقول المؤرخ محمد بن أحمد الشاطري واصفًا نتائج حالة الانقسام تلك : “لو تم لإحدى السلطنتين التغلب على الأخرى، أو لو قدر لحضرموت أن تتوحد تحت لواء إحدى السلطنتين، لكان في صالحها وصالح شعبها الذي حرم منذ قرون عديدة من وحدة الحكومة”.
وبدوره لم يخل الصراع العشائري الكثيري واليافعي ولاسيما القعيطي من تدخل الأصابع الأجنبية، ففي الوقت الذي والى فيه القعيطيون الإنجليز بمعاهدات متعددة ما بين حماية وصداقة واستشارة، تذبذب ولاء الكثيريين ما بين الأتراك العثمانيين وحكام شمال اليمن، لكنه انتهى بالارتماء في الحضن البريطاني كغيرها من الكيانات العشائرية التي توزعت منطقة الجنوب آنذاك.
تلك الصراعات بين القبائل التي كونت دولا في مراحل متعددة كانت تتخلله حضور لدول أخرى حاولت تقيم دولها هي الأخرى، ونجح بعضها في بعض المدد التاريخية، لكن دورها الأبرز كان على هامش الدول المذكورة سلفًا إما تأييدًا أو تهديدًا، وأبرزها قبيلتا تميم والحموم، فالقبيلة الأولى بفروعها المختلفة ومن بينها المعارة التي يصفها المؤرخ صلاح البكري بأنها “من أكثر قبائل البادية ميلا للنهب والسلب وقطع الطريق” شكلت تأييدًا وقوة لدول يافع القعيطية، وعامل شغب وهدم لدولة آل كثير، أو كما يقول المؤرخ بامطرف: “تميم من أقوى العوامل في تدمير الدولة الكثيرية”، ويعلل ذلك بإنهاء آل كثير أثناء تمددهم الأول محاولات آل تميم إنشاء دولة قوية لهم بوادي حضرموت.
والقبيلة الثانية هي الحموم التي يصفها المؤرخ صلاح البكري بأنها “من أكثر قبائل البادية عبثًا بالسلام، وإخلالا بالنظام”، فكانت معادية لكل محاولة إنشاء دولة أو مجتمع منظم بحضرموت الحديثة، ولصلابة شكيمة هذه القبيلة بعشائرها المتعددة كآل البحسني والعليي والغرابي والعجيلي وغيرهم لم تصطدم فقط بالقبيلتين المحليتين المتنافستين من يافع والكثيري، بل كذلك اصطدمت بحليفهما الإنجليزي، فخاض ضدهم أبشع معاركه بدعم حليفيه المحليين، وذلك بعد أن ضاق ممثل بريطانيا بالحموم بمختلف عشائرها، وكتب عنهم أسوأ التقارير لحكومته حتى أنه قال عنهم: “اتضح لنا من خبثهم المحسوس أنهم أسفل درك من البدو، وأنهم حقيقة من الهمج المتوحشين”، وذلك لتبرير ضربهم بعنف بأحدث أنواع الأسلحة في ذلك الوقت بما فيه سلاح الجو البريطاني الذي حلق على مثاويهم في شرق حضرموت.
كل ذلك يدل على أن حضرموت مع سعيها الحديث لتكوين المجتمع المدني، فإن بها عناصر قبلية متجذرة تاريخيًا في التأثير على الحياة السياسية بها، وغالبًا ما تكون أدوارها السياسية ذات أثر سلبي على حضرموت، سواء في سعيها للحكم والنفوذ، أو في تعاملها مع الأجنبي أيًا كان شأنه، وتدفع في ذلك الصراع ثمنًا من تشوقها نحو التنمية والريادة، أو تشوفها إلى الحرية والسيادة، وفقدانها لقوة المرجعية ووحدة القيادة.