الثقافة والفن
أغلى وأشهر لوحة في التاريخ.. ظلّت 400 سنة بلا اهتمام إلى أن سُرقت، ولا ندري هل هي حزينة أم ضاحكة؟
ربما تكون لوحة موناليزا أكثر الأعمال الفنية شهرةً في العالم، لكن هل تساءلت يوماً لمَ تحديداً موناليزا مشهورة لهذا الحد؟
هناك عددٌ من الأسباب خلف شهرة اللوحة الباقية حتَّى اليوم، ومعاً تخلق هذه الأسباب قصةً مدهشة صمدت على مدار العصور. حتى تفهم لمَ تظل صورة رسام لوحة الموناليزا إحدى صور الفن الأكثر أيقونية على الإطلاق؟ نُلقي نظرةً على قصتها الغامضة، ومحاولات سرقتها الشهيرة، وتِقنيات الفن المبتكرة التي رُسمت بها.
أصول الموناليزا
رُسِمَت لوحة الموناليزا على مدار عدة أعوامٍ بريشة ليوناردو دافنشي، الفنَّان والموسوعي الفرنسي الذي رسم بعضاً من أعمال عصر النهضة الفنيَّة الأكثر أيقونيةً على الإطلاق.
وُلِد دافنشي باسم ليوناردو دي سير بييرو دافنشي عام 1452، وكان ابناً غير شرعي لرجل نبيل، ومع أنَّه توجد قلَّة فحسب من المعلومات عن فترة طفولته، إلَّا أنَّ الباحثين يعلمون أنَّه تدرَّب في شبابه لدى فنان ونحَّات يُدعَى أندريا دي تشوني ديل فيروكيو.
عمل دافنشي على العديد من الأعمال الفنية المتطوِّرة على امتداد مسيرته، وفي بداية القرن الـ16، بدأ دافنشي العمل على لوحةٍ ستُعرَف فيما بعد باسم موناليزا.
على عكس عديدٍ من الأعمال الفنيّة لتِلك الفترة، لم تُرسَم الموناليزا على لوحةٍ قماشية، بل على لوحٍ من خشب الحور.
مع أن هذا قد يبدو اختياراً غريباً، لكن ضع باعتبارك أنَّ ليوناردو كان نحاتاً وفناناً رسم على جدران كبيرة طوال أغلب سنوات مسيرته الفنية، لذا فالأغلب أنَّ استخدام لوحٍ خشبي لم يكن اختياراً بعيداً عمَّا تعوَّده.
يُعتقَد عامةً أنَّ اللوحة تصوُّر ليزا غيرارديني، وهي زوجةُ تاجر حريرٍ ثري يُدعى فرانشسكو ديل جيوكوندو.
إنَّ كلمة «مونا» هي لفظة عامية للكلمة الإيطالية التي تعني «سيِّدة»، ومن هنا يأتي العنوان «مونا ليزا». عنوانٌ بديل للَّوحة هو «لا جياكوندا». يُعتَقَد كذلك أنَّ اللوحة رُسِمَت بأمر من جيوكوندو احتفاء بولادة طفلهما الثاني.
على مرِّ الأعوام، وردت نظرياتٌ بأنَّ ليزا غيرارديني لم تكن هيَ حقيقةً المرأة المرسومة في هذه اللوحة.
كثُر التخمين بأنَّ المرأة الغامضة قد تكون أياً من عشرات النساء النبيلات في إيطاليا خلال تِلك الفترة، وتوجَد نظريةٌ شائعة حتى بأنَّ الموناليزا هي في الحقيقة نسخة مؤنثة من دافنشي نفسه.
مع ذلك، تشير مذكرة كتبها أغوستينو فيسبوتشي عام 1503، وهو كاتبٌ إيطالي عمل مساعداً لنيكولو مكيافيلي، إلى أنَّ ليوناردو أخبر فيسبوتشي أنَّه كان بالفعل يعمل على لوحةٍ لزوجه ديل جيوكوندو. وبشكلٍ عام، يتَّفق مورخو الفن على أنَّ الموناليزا هي فعلاً ليزا غيرارديني.
يتَّفق الباحثون كذلك على أنَّ ليوناردو رسم أكثر من نسخةٍ واحدة من الموناليزا، فبالإضافة إلى اللوحة المكلَّفة بأمرٍ من ديل جيوكوندو، فقد وُجِدَت على الأرجح لوحة ثانية بتكليفٍ من جويليانو دي ميديتشي عام 1513.
ويُعتقَد أنَّ نسخة ميديتشي هي المعروضة في متحف اللوفر في يومنا هذا.
تقنياتٌ فنية فريدة استخدمها رسّام لوحة الموناليزا
على عكس بعض الأعمال الفنية الصادرة في القرن الـ16، فإنَّ لوحة الموناليزا صورةٌ شديدة الواقعية لشخصٍ حقيقي كلياً.
تُرجِع أليسيا زيلازكو من موسوعة بريتانيكا ذلك إلى مهارة دافنشي في استخدام الفرشاة، وتوظيفه تقنياتٍ فنية كانت جديدة ومشوِّقة أثناء عصر النهضة. تقول:
«يُبرز وجه موضوع اللوحة المنحوت بنعومة تعامُل ليوناردو البارع مع تكنيك سفوماتو sfumato، وهو تكنيكٌ فني يستخدم تدريجاتٍ خفيفة غير صارخة من الضوء والظل لنَحت الشكل، ويُبدِي فهمه لتكوين الجمجمة القابعة تحت الجلد».
كما يكشف الخمار المرسوم بدقة، والخصلات المجدولة بنعومة، والنحت المدروس لطيَّات القماش، جميعاً ملاحظات ليوناردو دافنشي المدروسة وصبره الأبديّ.
بالإضافة لاستخدامه تكنيك سفوماتو، ذلك الذي ندر استخدامه في تلك الفترة، يحمل وجه المرأة في اللوحة تعبيراً غامضاً.
تتغيَّر ابتسامتها حقيقةً، المتحفّظة والمغرية في الوقت ذاته، حسب الزاوية التي يراها الناظر منها. وبفضل فروق إدراك التردد الفراغي داخل العين البشرية، من موضع نظرٍ تبدو الموناليزا مبتهجة.. ومن آخر، قد لا يتمكَّن الناظر من تحديد ما إن كانت تبدو سعيدةً أم لا.
كذلك فإنَّ موناليزا هي أوَّل صورةٍ شخصية (بورتريه) صُوِّر موضوعها في إطارٍ نصف-طولي، يظهر ذراعي المرأة ويديها دون ملامسة حدود اللوحة.
تُصوَّر موناليزا فقط من الرأس إلى الخصر، جالسةً على كرسيٍّ أسنَدت ذراعها اليسرى على يدِه. يؤطرها عمودان ظاهران جزئياً، يخلقان أثراً كالنظر من نافذةٍ على المشهد الطبيعي الماثل وراءها.
أخيراً، وبفضل تمكُّن دافنشي من إبراز الضوء والظلال، تبدو عينا المرأة كما لو كانتا تُتابعان الناظر أينما كان يقف.
لم يكن ليوناردو أوَّل من ابتدع تأثير أن تُرَى عين موضوع اللوحة تتبَع المتفرِّجين عبر أركان الغرفة، لكنَّ هذا التأثير ارتبط ارتباطاً وثيقاً بمهارته في الرسم لدرجة أنَّه صار يُعرَف -خطأً- باسم «تأثير الموناليزا«.
حادثة سرقة متحف الموناليزا
على مدار قرونٍ عدة، ظلَّت الموناليزا معلَّقةً في سكونٍ داخل متحف اللوفر، ولم يُلقِ لها أحدٌ بالاً، لكن في يوم 21 أغسطس/آب عام 1911، سُرِقَت اللوحةً من على حائط المتحف مباشرةً في حادثة سرقة هزَّت عالم الفن.
يقول الكاتب سيمور ريت: «دخل أحدهم إلى الصالة المربّعة باللوفر، وأنزلها من على الحائط، ثم خرج بها! سُرِقَت اللوحة صباح يوم الإثنين، لكنَّ الأمر المثير للاهتمام بشأن السرقة هوَ أنَّ غيابها لم يُكتشَف حتى ظهيرة يوم الثلاثاء».
عندما اكتُشِفت السرقة، أغلق اللوفر أبوابه لأسبوعٍ حتى يتمكَّن المحققون من فهم لغز السرقة. في البداية سرَت نظريات المؤامرة في كل مكان: اللوفر دبَّر تمثيلية السرقة كحركةٍ دعائية، بابلو بيكاسو هوَ مَن كان وراء الأمر، أو ربمَّا مَن أخدها هو الشاعر الفرنسي غيوم أبولينير.
ألقت الشرطة الفرنسية باللوم على متحف اللوفر؛ نظراً لإجراءات الأمن المتراخية، فيما سخر اللوفر علناً من مسؤولي الشرطة لفشلهم بالعثور على أية خيوطٍ للتحقيق.
بعد مرور أكثر من عامين، في أواخر عام 1913، تلقَّى تاجر أعمالٍ فنية من فلورنسا يُدعَى ألفريدو غيري خطاباً من رجلٍ زعم أنَّ اللوحة بحوزته.
اتَّصل غيري بالشرطة فوراً، التي سرعان ما ألقت بدورها القبض على فينشينزو بيروغيا، وهو نجَّارٌ إيطالي كان يعمل في اللوفر وقت حدوث السرقة.
اعترف بيروغيا بأنَّه ببساطة رفع التحفة الفنية مِن على الخطافات الأربعة التي كانت معلَّقة بها، ودسَّها تحت سترته العمالية، ثم خرج بها من باب المتحف.
وُجِدَت الموناليزا مخبأةً بشكلٍ آمن في شقَّة بيروغيا، الواقعة على بعد عدة مبانٍ لا أكثر من المتحف. قال بيروغيا إنَّه سرق اللوحة؛ لأنَّها تنتمي لمتحفٍ إيطالي لا فرنسي. وسرت شائعاتٌ كذلك بأنَّه أخذها كي يصنع مزورٌ نسخاً منها تُباع في السوق السوداء.
بمجرَّد أن أُعيدت الموناليزا إلى اللوفر، جاء الفرنسيون أفواجاً لرؤيتها، وتبِعهم بعد ذلك الناس من شتَّى أنحاء العالم. أثارت اللوحة الصغيرة البسيطة لامرأةٍ ربما تكون مبتسمة أو لا، ضجةً بين ليلةٍ وضحاها، وأصبحت أشهر عملٍ فني في العالم.
منذ حادثة السرقة عام 1913، كانت الموناليزا هدفاً لعدة نشاطاتٍ إجرامية. ففي عام 1956، رمى أحدهم حمضاً آكلاً على اللوحة، وفي هجومٍ آخر حدث في العام ذاته، رُميَت بحجر، تسبَّب في ضررٍ طفيف بكوع الموناليزا الأيسر.
في عام 2009، رمت سائحة روسية اللوحة بفنجانٍ فخاريّ، لكنَّ ذلك لم يُسفر عن أي ضررٍ بها، لأنَّ الموناليزا كان لها عشراتٌ من الأعوام موضوعة وراء زجاجٍ مضادٍ للرصاص.
لوحة الموناليزا.. أشهر وجهٍ في العالم
أثَّرت الموناليزا بعددٍ لا يُحصَى من الرسَّامين، بدءاً من معاصري ليوناردو وحتى فنَّانين عصرنا الحديث هذا.
على مدار القرون التي تلت ولادتها، نُسِخَت الموناليزا آلاف المرات من قبل فنانين من مختلف دول العالم. أخذ الفنان مارسيل دوشامب بطاقةً بريدية عليها صورة الموناليزا ورسم لها شارباً ولحيةً صغيرة على طرف الذقن.
وقدَّم عمالقة الفن الحداثي أمثال آندي وورهول وسلفادور دالي نُسخهم الخاصة من الموناليزا، ورسمها الفنانون بكل طريقةٍ يمكن تخيُّلها، كأن تُصوَّر ديناصوراً، أو أحادي قرن، أو كإحدى شخصيات مخروطيي الرأس «كونهيدز» الظاهرة في برنامج Saturday Night Live الكوميدي الساخر، أو ترتدي نظارة شمسٍ وأُذني ميكي ماوس.
ومع أنَّه يستحيل أن تُوضَع قيمة للوحة موناليزا التي تبلغ من العمر 500 عام، إلَّا أنَّها تُقدَّر بنحو مليار دولار!
عربي بوست