متابعات
كلمة د. قادري أحمد حيدر في أربعينية الشاعر د. سلطان الصريمي بصنعاء
ريبون نيوز_متابعات. الجمعة 14 فبراير 2025

نيابة عن اصدقاء ورفاق الفقيد، وليس نيابة عن أسرة الفقيد، وذلك يوم أمس الخميس، ١٣, فبراير،٢٠٢٥م.
سلطان الإنسان .. ذاكرة صداقة
آه، يا زمن المراثي.
أي ليل هذا يا سلطان يلاحق خطونا كأنه ظلنا.. كيف له الإصرار على عناقنا حد الخناق؟!
أي حزن هذا يا سلطان يطوقنا من جميع جهات الروح حتى الممات .. حتى لا مكان سوى للحزن الذي يفرش ظله لبدايات لا تنتهي.. بدايات، تقول لنا ما قاله عبدالله البردوني قبل أربعة عقود: “لماذا الذي كان ما زال يأتي/ لأن الذي سوف يأتي ذهب”.
حقاً، هو زمن المراثي.. زمن الخراب، والرحيل دون وداع.
* * *
لقد “تطاول الليل علينا”، سلطان.
إنه الليل الطويل الذي يرفض الإنجلاء من أمرؤ القيس حتى أيامنا الكالحة.
ليل تطاول على عشق أيامنا معلنا أنه سيد الوقت.
كيف للعتمة والتفاهة واللامبالاة أن تتطاول على شمس أفراحنا، وضحك أيامنا، وغناء أوقاتنا.
أعلم يا سلطان أنه ليل يتطاول في غفلة من أرق أيامنا، ومن تعب الذاكرة، ولكنني أتذكر أنك علمتنا أن لا مكان سوى للحزن المقاتل وللموت الذي يصنع فعلاً مقاوماً!
وأنت، الذي قلت ذات يوم:
”ربيت نفسي على حب الطٌلُوعُ
كَم شاَفت النَفْس في الَطَّلعة تَعَب”
* * *
منذ بواكير الشباب، رفض ابن الصريمي الوقوف في صف من “يمسكون العصا من الوسط”، ويرقصون، أو يبترعون مع كل طرف، لأنه “حلف برأس الوفاء ما سيب الهيجة حطب/ ولا ترك ذئبها ينخط نخيط”.. لأنه “ ربى نفسه على حب الصعود”, وهو ما يفسر حالة الحزن المقاوم، والتحدي الصاعد من قلب الموت.
حزن مقاوم يمتد من غزة/ هاشم، إلى الضفة، إلى سوريا وإلى كل عواصم الوطن العربي النائم.
ولذلك لم يقف يوماً في صف الحياد، إزاء القضايا الأخلاقية والإنسانية كان أبداً متحازاً للمعنى الأخلاقي والإنساني.
الله ما أقسى رحيلك على الروح أيها السلطان المقاوم حتى أخر نفس.
ألم تقل منذ زمان مضى، وأنت تعارك جحيم القلق .. صنوف التعب:
ذَابَت عَلَى جَمرةَ أيامي جَبالْ
وذاب صَبرِي وقهري وَالأَملْ
إلا الصور،
محَفُورة في الوجدان حفّرْ
تغفي وتنبَهْ معِي
كُلماَ تجابهني بشاعة عُمري القاسي
يعانقني جَمالَ الموت
وتأتي قوتي منه.
هو تعب علينا أن نحتمله بصبر المقاوم الذي كنته لتحوله إلى معول للبناء والعمران، كما أردت، وكما أراده ابن خلدون، قبل ثمانية قرون.
* * *
*
بحثت أيها السلطان في تاريخ العشريات السوداء لشعوب الدنيا، فلم أجد أقسى وأمر من كأبة وبشاعة عشريتنا التي كحلت عيون أيامنا بموت يسابقنا كأنه أسمنا، يسحب منا أرواحنا قبل الأوان.
عرفته محباً للضوء، عاشقاَ للفرح، مقبلاً على الحياة في صورة عطاء لا يتوقف.
سلطان البساطة أنت، أمير التواضع كنت، تجمع في ذاتك تناقضات إنسانية جميلة تدل عليك حيث أنت.
فيك ومعك أيها السلطان رأيت نبالة الطبع الإنساني، وسمو النفس التواقة لتطهير الروح من ادران متاعب الجسد.
هي عشرية سوداء قاسية على الروح يا صديقي، قد تفتح باباً لعشرية ثانية، في محاولة لتعويدنا على العودة إلى الحرف الأول من “سورة الحرب”، وكأن الحرب قدرنا، وسرديتنا المكتوبة في”اللوح المحفوظ”.
ما زلت أتذكر كيف كنت معانداً ومغايراً ومشتبكاً بروح مقاومة لا تلين ضد هكذا عشرية.. ضد هكذا حكاية، محاولاً فرض “سيرة الحب”، في مواجهة سردية الحرب.
* * *
رحلتك الشعرية، منذ بداية المهد حتى سدرة منتهى اللحد، كانت قولاً واحداً؛ لا خيار أمامنا سوى الحب والوفاء بالعهود ومحبة الوطن والأصدقاء من حولنا.
حروب كانت وما تزال تحاول إعادة إنتاج نفسها على صفحة أيامنا الآتية، وكأنه لا مستقبل لنا سوى الإقامة في الماضي، والتدثر بعباءة الحروب، وكان قولك – كذلك – واحداً، قاطعاً مانعاً، لا خيار لنا وأمامنا سوى نقض “سورة الحرب”، بـ”سردية الحب”.
* * *
كان السلطان في حضوره، ينظر إلى نفسه، يبحث عن نواقصه في داخله، وذلكم هو سر قوته وتقدمه في الكلام وفي الشعر وفي الحياة..
كان يبحث في الآخرين عن نفسه ليكتمل بهم، لأنه أدرك بروحية الحلاج الثائر، أن كل كمال إلى نقصان، ولذلك رحل مكتملاً بمحبة الناس من حوله مجسداً ملحمة سرديته في الشعر، وفي الحب، بعد أن جعل من الوفاء أحد عناوين اسمه وخصيصة هويته الذاتية، ولذلك كنت وما أزال، أفاخر واباهي بالقول ذلكم هو صديق عمري، السلطان ابن السلطان، الذي نلتقي اليوم لنحتفي بمعنى أسمه تكريماً لذكرى وفكرة لا تموت.. يرحل الجسد، ويبقى هو فكرة محلقة في الزمن.
لقد اعتمد ابن الصريمي/ السلطان، نظرة حياتية إنسانية واقعية، وليس أيديولوجية/ حزبية، طبقية لمعنى السلام في الوطن ولمفهومه الحي لمعنى الصداقة، لأنه حدد مسبقاً، أنه بدون الآخر في الوطن وفي الإنسانية، لن يكون سوى أقل من واحد، غير قابل للصرف في مبادرة ومعادلة المواطنة المتساوية التي حلم بها.
الحضور الكريم:
والله لا أبالغ حين أقول لكم إن كل العمر الذي جمعني وأياه وجميع الأصدقاء في جميع مراحل الزمن الذي كان، وهو يزيد على الخمسين من السنين، أجدني اليوم أضعه في كفة، مقابل اسبوعين من الأيام في المشفى وأنا معه، وهو طريح سرير المرض، حيث قال وتكلم حول كل شيء، تكلم بكل أبجديات لغات العالم، دون كلام .. تكلم بالصمت كثيراً .. الصمت الذي كان أبلغ من كل كلام، وكأنه يعيد على مسامعي فصول حكاية رحلة العمر الذي كان بتفاصيل فيها الكثير مما غاب عني من الكلام ومن الحكاية.. أسبوعان رأيت فيهما صديق العمر لا يتوقف عن الحب، ومن الكلام، وما يزال يذكرني بما كان وما كنا عليه قبل هذين الأسبوعين، وهو محاصر بالأجهزة المساعدة على التنفس، بعد أن طغى ثاني أكسيد الكربون على خلايا رئتيه مانعاً عنه أكسجين الحياة.
كان يتكلم وكأنه يسابق الدهر، ويعاند الموت، ليعلن انتصاره عليهما ولو لهنيهات معدودة، منتهزاً الفرص المتاحة من الوقت الضائع ليقول الكثير من الكلام الذي يختصر المعنى كله، موجهاً سهام نقده لنظام التفاهة والعبث السياسي وفقر الدم الإخلاقي والإنساني الذي صار مهيمناً على صورة حياتنا اليوم، لإجبارنا على التعود على فعل الخيانة، بقول نصف الحقيقة، وكان قراره/ اصراره كعادته على قول وفعل الحقيقة كاملة وعارية من كل زيف.
* * *
صباح الخير يا سلطان، صباح الخير أحبتي الحضور الكرام.
هل نحن هنا لقول أن الجبال هجرت أرضها / مواقعها، ومن أن الشواطئ انكرت عمق امتدادها في البحار، ومن أن الأمكنة صارت تتحرك بدون أزمنة، وضداً على إرادة الإنسان للتغيير في الزمن .. إرادة الإنسان في الحياة؟!
فطيلة نيف وخمس عقود لم يقل ولم يكتب السلطان ما يشبه هذا الكلام .. الكلام المناقض لحقيقة جدل الإنسان والطبيعة والمجتمع، في الحياة.
كان ابن الصريمي، يعي ويفهم أن الدعوة للتغيير التي حملها في جوانحه/ هواجسه، سواء في الشعر، أو على مستوى الحزب، والمجتمع والدولة هي هواجس وإفكار غير قابلة للطعن، ولا تقبل بالنوم على سرير واحد مع الإقامة في الماضي، والدفاع عن التخلف.
* * *
أتصور أننا نلتقي اليوم فقط، لنواصل حواراً ما انقطع ولكنه لم يكتمل ما بيننا والسلطان، بفعل حاجة جسده المتعب للاسترخاء أو للاستراحة من عناء تعب الأيام، ففضلنا أن نواصل حوارنا معك أيها السلطان في ومع هذا الجمع الكريم، في صورة حوار هو بمثابة تحية إجلال وإكرام .. تحية تحرجنا يوم أمس أن نقولها أمامك ونحن في زيارتك في المشفى خشية تفسيره بالمجاملة أو العاطفة الزائدة عن الحاجة، فانتهزنا فرصة هذا اللقاء الكريم بك، لا لنودعك، وإنما لنقول لك بعض مما لم نقله فيك وعنك يا سلطان الشعر.. لنقول أنك كنت أجملنا .. أنبلنا.. أصدقنا، عنوان شرفنا، كنت تاجاً على رؤوسنا، يزين أيامنا بالفرح، ويخفف عنا وطأة قبح أيام هذه العشرية القاتلة.
هي أيام مقتطعة من الزمن، “تذكر ولا تنعاد”, حسب قول أخواننا الشوام.
على أننا لا نحتاج – اليوم – إلى أن نستعيدها، فنحن نعيش تفاصيل فصول جحيمها في كل لحظة وآن.
تلكم باختصار هي الحكاية.
عاش ابن الصريمي حياته كريماً طاهراً معطاءً، ومحباً لكل الناس من حوله.
عاش محافظاً على أسمه خالداً في ذاكرة الصداقة، وفي دفتر التاريخ كأجمل ما تكون الذكرى والفكرة.
لك المجد في الأعالي أيها الرفيق والصديق ، والأب/ المربي، الذي عرف كيف يربي وينمي في بناته، واولاده، حب الوطن، والقيم والمثل الاخلاقية، والإنسانية العليا .. أعرف وأعلم أن ليس هناك من أولاده من التحق بالاحزاب، ولكنهم جميعا يتمثلون ويجسدون في سلوكهم العملي القيم والرؤى الاخلاقية، والإنسانية، في واقع الممارسة .. لروحك السلام والخلود.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.