كتابات
كتب المفكر الفلسطيني ماهر الشريف: مساهمة في النقاش حول اليسار ومستقبله
المواطن/ كتابات
ماهر الشريف – مفكر فلسطيني وعضو هيئة تحرير مجلة النهج سابقاً.
(نشرت هذه المادة في صحيفة “النور”، التي يصدرها الحزب الشيوعي السوري، وهي “نظرة في ملف: ماذا يعني أن تكون يسارياً اليوم”؟ونعيد نشرها لأهميتها)
الملف الذي نشرته صحيفة “النور” على حلقات عن اليسار ومعناه في عالم اليوم مهم من زاويتين: فهو، بتنوعه، يعكس وعي اليسار العربي، في هذه اللحظة التاريخية، لذاته وللقضايا التي يواجهها وللمهمات الملقاة على عاتقه؛ وهو، بمواده، التي تضمن بعضها انتقادات شديدة لليسار الشيوعي، يعبّر عن انفتاح الشيوعيين السوريين على الحوار، وترسخ القناعة لدى قياداتهم بأن الرد على الانتقادات، التي توجّه لسياساتهم، يكون بالكلمة والنقاش المسؤول، وهو ما عبّر عنه عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري، نجم خريط، بتأكيده على “أن الجدل والنقاش شرط طبيعي لتطوّر الفكر”.
وسأحاول في هذه المساهمة أن أعلّق على بعض ما جاء في مواد هذا الملف.
ماذا يعني أن تكون يسارياً اليوم؟
أشار عطية مسوح إلى أن صيغة هذا السؤال توحي بثلاث نقاط: ضرورة اليسار في المرحلة الراهنة؛ ضرورة تغيير دلالات مصطلح اليسار في المرحلة الراهنة؛ تناول مفهوم اليسار على ضوء تجربة القرن العشرين ودروس نهاياته، وإدراك إيقاعات القرن الحادي والعشرين.
اليسار هو إذن ضروري في المرحلة الراهنة، وعليه أن يدرك، كي يكون فاعلاً، إيقاعات القرن الحادي والعشرين في ضوء تجربته الماضية.
ولكن هل هناك ضرورة لتغيير دلالات مصطلح اليسار؟
في اعتقادي، أن مصطلح اليسار، من حيث الدلالات، لم يتغيّر ولن يتغيّر مع الزمن (اللهم إلا بعد نجاحه في بلوغ هدفه النهائي وهو الاشتراكية)، وهو ما أشار إليه بعض المساهمين في الملف.
فمفهوم اليسار لم يتبدّل منذ نشأته ” بوصفه التزاماً بالتغيير وانحيازاً إلى الفئات الاجتماعية المستغلة والمهمشة”، كما ذكر سليمان تقي الدين.
ومن المعروف أن الدلالة السياسية الأولى لمصطلحي “يمين” و “يسار” ظهرت في خضم أحداث الثورة الفرنسية، وذلك عندما انقسم أعضاء “الجمعية التأسيسية” في آب 1789، وبهدف تسهيل عملية جرد الأصوات، إلى فريقين، حيث جلس أنصار تقييد سلطة الملك بالدستور إلى اليسار، بينما جلس أنصار منح الملك حق النقض إلى اليمين. وعلى أساس ذلك التقسيم المكاني، صار “اليسار” يعبّر عن أنصار التغيير، بينما أصبح “اليمين” يعبّر عن أنصار الحفاظ على الوضع القائم. وأضحت شعارات الثورة الفرنسية ” حرية، مساواة، إخاء” تمثّل القيم الرئيسة التي تبنّاها اليسار.
غير أن هذين المصطلحين النقيضين لم يلقيا رواجهما، في الواقع، إلا في أعقاب ثورة تموز 1830 في فرنسا، وذلك بالارتباط مع مصطلحات أخرى أخذت تظهر وقتئذٍ مثل “برجوازية”، و “بروليتاريا”، و “اشتراكية”، وباتا يعبّران، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عن التعارض القائم بين إيديولوجيات وحركات وبرامج قسّمت عالم السياسة والفعل السياسي.
ومع أن معايير التمييز بين “اليمين” و “اليسار” قد تطوّرت مع الزمن، إلا أن معياراً واحداً بقي –وكما لاحظ المفكر الإيطالي نوربرتو بوبيو- ثابتاً وصمد أمام الزمن، وهو معيار التمييز بين قوى تناضل من أجل ضمان المساواة بين البشر، وقوى تسعى من أجل الحفاظ على أشكال اللامساواة القائمة بينهم. فعلى قاعدة الفصل بين الطبيعي والاجتماعي، يرى اليساري أن أغلب أشكال اللامساواة هي من أصل اجتماعي، ولكونها كذلك فهي قابلة للتصفية؛ في حين يرى اليميني أنها طبيعية، وبالتالي فهي محتومة. لكن، ونظراً إلى أن مفهوم المساواة يظل مفهوماً نسبياً، يصبح النضال في سبيلها –كما يتابع بوبيو – تعبيراً عن توجّه واقعي نحو تقليص أشكال اللامساواة القائمة بن البشر، والمتوالدة عن مصادر ثلاثة هي: الطبقة والعرق والجنس. فاليساري يناضل من أجل الحد من أشكال اللامساواة بين الطبقات في المجتمع الواحد، ويناضل من أجل الحد من أشكال اللامساواة بين الأمم والشعوب على مستوى العالم، ويناضل من أجل الحد من أشكال اللامساواة بين المرأة والرجل. وهذا المجتمع، الذي تنتفي فيه كل أشكال الاستغلال والتمييز والاستلاب، هو المجتمع الذي يمكن أن يحمل اسم المجتمع الاشتراكي.
وعليه، فالنضال من اجل الاشتراكية يبقى هو الهدف البعيد لليسار وأحد مبررات وجوده. وعلى الرغم من أن هدف الاشتراكية ليس مطروحاً اليوم على جدول أعمال اليسار العربي، إلا أن من واجب هذا اليسار الإسهام في النقاش الدائر، على مستوى العالم، من أجل تحديد ملامح هذا المجتمع البديل المنشود، الذي بيّنت تجربة الحياة أنه سيولد في رحم الرأسمالية بوصفه تجاوزاً جدلياً لها وتطويراً لكل المنجزات التقدمية التي تحققت في ظلها.
الجمع بين السياسة والأخلاق
لقد لفت انتباهي في مواد الملف أن كلمة أخلاق قد ترددت كثيراً. وهو أمر لم يكن معهوداً سابقاً في الخطاب اليساري. فبالنسبة ليوسف سلامة لم تعد كلمة يساري “تنطوي على دلالة سياسية فقط، بل هي أيضاً تنطوي على دلالة أخلاقية”. وأن أكون يسارياً يعني، من وجهة نظر عبد الكريم الناعم، ” أن أكون أخلاقياً، ويقظ الوجدان”. وفي رأي محمود وهب، تكتسي ” القضية الأخلاقية”، ولا سيما في مجال مكافحة ” انتشار الفساد الإداري في حكومات دول العالم أجمع”، أهمية بالغة.
والواقع، أن اليسار لا يمثّل قوة تسعى إلى التغييرالاجتماعي فحسب، بل يجب أن يكون، في الوقت نفسه، قوة تغيير أخلاقية وثقافية، تسعى للتأثير على مجالات إعادة الإنتاج الأخلاقي والثقافي كالعائلة، والمدرسة، والشارع (المجال الاجتماعي العام)، وتولي اهتماماً كبيراً لمسألة تربية الأطفال والشباب. بل وأذهب إلى أبعد من ذلك لأقول: إن تطلع اليسار إلى مجتمع الغد الاشتراكي لم يعد تطلعاً مرهوناً بتحقق حتمية تاريخية بقدر ما بات تطلعاً نابعاً من حاجة أخلاقية.
الموقف من ماضي اليسار
لقد حدد عدد من المساهمين في الملف الأسس التي يجب أن يستند إليها أي نقاش جاد ومسؤول عن ماضي اليسار.
ففيصل دراج رأى أن ماضي الحركات اليسارية ” يشكّل جزءاً داخلياً من حاضرها، ويحدد مستقبلها، إن اعترفت بهذا الماضي، وقرئ بطريقة نقدية “. وأضاف: ” ولعله من العبث الأخلاقي أن يتنكر الإنسان العربي، الذي يريد أن يكون يسارياً، لتاريخ كفاحي واسع صاغه عشرات الألوف من الحالمين الثوريين”.
بينما اعترف محمود وهب بأنه ” حدثت في الماضي أخطاء، ولكن ينبغي أن لا تدفعنا محاولات التخلص منها إلى لعن هذا الماضي والمطالبة بدفنه”.
وخلص عطية مسوح، واستناداً إلى ما أسماه ب” التواصل والتفاصل “، إلى أن القول بضرورة تجديد مفهوم اليسار ” لا يعني القطيعة التامة بين يسار جديد ويسار القرن العشرين”. فالحركات اليسارية ” تتالى عبر الأجيال، ويكون لكل زمن مختلف حركاته المختلفة، من حيث مضامينها الفكرية وخطابها السياسي والثقافي وهمومها الاجتماعية”.
أما سلامة كيلة، الذي ركّز مساهمته على نقد ماضي الأحزاب الشيوعية العربية، فقد كان له رأي مختلف، حيث انطلق من أن “أزمة اليسار” قد تحوّلت إلى ” عجز”، ينبئ بتلاشي اليسار ” الذي تشكّل في القرن الماضي”، مرجعاً سبب هذه الأزمة الأساسي إلى ما أسماه ب “طبيعة الوعي بالماركسية “، حيث أن ” الاعتماد الكلي على تلك الماركسية التي كانت تتبلور في الاتحاد السوفيتي كان يقود إلى اتّباع سياسة مطابقة لمصالح الدولة السوفيتية لا للواقع العربي”. ويتابع سلامة بأن الفضاء الإيديولوجي ” الذي عممه منظرو الحزب الشيوعي السوفيتي” ظل هو “منهل “ماركسيينا”، حتى أولئك المختلفين مع السياسة السوفيتية والشيوعية المحلية [من اليسار الجديد ]، وظل الاطّلاع على الماركسيات الأخرى، وبالأحرى على ماركس وأنجلز ولينين، محدوداً “. وخلص إلى أن اليسار قد تبنّى تصوّراً لارتقاء المجتمعات العربية ” يفرض حتماً المرور إلى المرحلة البرجوازية قبل الانتقال إلى الاشتراكية؛ وباتت الأحزاب الشيوعية معنية بانتصار البرجوازية لا بانتصارها هي، وهو الأمر الذي لم يدفعها إلى تأسيس القوى القادرة على استلام السلطة “.
إنني أتفق مع سلامة كيلة على أن الأحزاب الشيوعية في بلداننا العربية قد انشدّت، منذ ظهورها، إلى الماركسية السوفيتية ولم تقدم إسهامات متميّزة في حقل إعادة إنتاج الماركسية بصورة مستقلة، لأسباب سأتطرق إليها لاحقاً. فقبل ثورة اكتوبر وتأسيس الكومنترن، بقي الاهتمام العربي بالماركسية محدوداً، ومقتصراً على عدد ضئيل من المثقفين. ومنذ مطلع عشرينيات القرن العشرين، صارت الأحزاب الشيوعية الوليدة في عدد من البلدان العربية تتعرّف على الماركسية في مرآة “اللينينية”، ولكن بعد أن كانت هذه “اللينينية” قد فقدت روحها الديالكتيكية، وتحوّلت، على أيدي ستالين، إلى عقيدة جامدة وباتت ملزمة لجميع فروع الكومنترن.
لكنني أعتقد أن سلامة يتبنّى تفسيراً تبسيطياً عندما يشير إلى أن استناد سياسات الأحزاب الشيوعية في بلداننا العربية إلى هذه “الطبعة” السوفيتية من الماركسية كان تعبيراً عن “تبعية” فرضها مركز قوي وارتضتها، رغماً عن إرادتها، “أطراف” ضعيفة. فالمسألة، في الواقع، كانت أعقد بكثير من هذا التفسيرالتبسيطي.
فالأحزاب الشيوعية في البلدان العربية، مثلها مثل عشرات الأحزاب الشيوعية في مناطق العالم المختلفة، كانت – وكما ذكرت في دراسة سابقة لي- مقتنعة قبل سقوط تجربة “الاشتراكية الفعلية” بأن تلك “الطبعة” السوفيتية من الماركسية كانت تجسد، ليس على مستوى النظرية فحسب بل وعلى مستوى التطبيق كذلك، “صحيح” الماركسية، وكانت منشدّة إلى منطق عالمي ساد صفوف الحركة الشيوعية العالمية واستند إلى الأفكار الرئيسية التالية:
إن ثورة اكتوبر قد افتتحت عصراً جديداً هو عصر الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية على صعيد العالم؛ إن قيام النظام الاشتراكي العالمي، بعد الحرب العالمية الثانية، قد عزّز التحوّل المستمر في موازين القوى العالمية لصالح الاشتراكية؛ إن نجاحات “الاشتراكية الفعلية” قد عمقت المحتوى الاجتماعي لحركة التحرر الوطني، وجعلتها تصبح جزءاً من الثورة الاشتراكية العالمية.
لقد أدركت الأحزاب الشيوعية أن المرحلة التي تمر بها بلداننا العربية هي مرحلة النضال ضد الامبريالية ومشاريعها في المنطقة، وبخاصة المشروع الصهيوني، والتحرر من علاقات التبعية للمراكز الرأسمالية العالمية وبلوغ التقدم، وهي الأهداف التي احتواها مفهوم “الثورة الوطنية الديمقراطية”. ومع أن هذه الأحزاب لم تضع هدف الاشتراكية كهدف مباشر على جدول أعمالها، إلا أنها رأت بأن خصوصية هذه الثورة “الوطنية الديمقراطية” ترجع إلى “سمة العصر”، المتميّز بالانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية على الصعيد العالمي. وعلى هذا الأساس، تعاملت الأحزاب الشيوعية العربية مع مفهوم “التقدم” من زاوية كونه “تقدماً اجتماعياً”، وراهنت على أن تؤدي الإجراءات التي اتخذتها أنظمة البرجوازية الوطنية، التي تحالفت مع الاتحاد السوفيتي ووصفت ب “التقدمية”، كالتأميم والإصلاح الزراعي والتصنيع الثقيل والتعليم الجماهيري، إلى توسيع حجم الطبقة العاملة وتوليد علاقات إنتاج جديدة، بما يساهم في تجميع شروط الانتقال إلى الاشتراكية.
طبعاً، من المشروع اليوم، بل من الضروري، فتح نقاش معمق حول موقف الأحزاب الشيوعية العربية هذا في ضوء تجربة التاريخ، لكن اختزال المسألة بإطلاق تهمة “التبعية” على سياسات هذه الأحزاب، أو الاكتفاء بالقول بأنها ظلت قاصرة عن تملك “الوعي بطبيعة الماركسية”، دون تفسير ما هو المقصود بذلك، لن يساهم، في رأيي، في إغناء مثل هذا النقاش.
اليسار واستعادة مشروع التنوير وترهينه
يقول فيصل دراج إن قراءة التاريخ الشيوعي العربي ” لا تنتج معنى إلا من خلال قراءة التاريخ التنويري العربي كله، ذلك أن إعادة الاعتبار إلى هوية الماركسي اليوم تستدعي إعادة الاعتبار إلى كل ما هو تنويري، لأن التطوّر اليساري لحظة متميّزة في تطوّر الفكر التنويري”.
ويبدو أن هذه الحقيقة التي يشير إليها فيصل كانت حاضرة في وعي عدد من المساهمين في هذا الملف. فاليسار ” معني باستعادة حركة النهضة”، كما يؤكد كريم مروة. واليسار معني بالتصدي لمهام بقيت معلقة منذ عصر النهضة، كمهمة ترسيخ العلمانية، التي يستطيع اليسار عبرها ” أن يقدم للوحدة الوطنية معنى ضامناً لا يستطيع اليمين تقديمه بما يرافقه من خطاب ديني، طائفي أو مذهبي أو إثني “، كما ذكر هيثم الشعار.
والواقع، أن انقطاع الماركسية العربية عند ظهورها في مطلع عشرينيات القرن العشرين على يد الأحزاب الشيوعية عن أفكار التنوير العربي كان سبباً رئيساً من أسباب عجزها عن إعادة إنتاج الماركسية بصورة مستقلة. فبانقطاعها عن فكر كان في وسعه، بمضامينه التحررية وتوجهاته التقدمية بما فيها الاشتراكية، أن يشكّل مصدراً مهماً وأصلاً محلياً لماركسيتنا العربية، بدا وكأن هذه الماركسية قد انزرعت في التربة العربية من دون أن تستند إلى جذور وأصول محلية.
وبالتالي يصبح من واجب اليسار اليوم أن يعمل على استعادة ذلك الفكر التنويري وترهينه، وذلك عبر التصدّي لحل المهمات التي بقيت معلّقة منذ عصر النهضة، وفي مقدمها الإصلاح الديني وتحرير المرأة وتحديث اللغة وإقامة دولة المواطنة الحديثة. بيد أن تصدّي اليسار لهذه المهمات، التي ظلت معلّقة، لا يعني ، كما رأى يوسف سلامة، ” الخروج من الدائرة الضيقة لوصف اليساري إلى الدائرة الأرحب المتعلقة بالمواطنة”، كما لا يعني أن المواطنة هي ” البديل العصري لمفهوم اليسار الذي لا يغطي إلا جزءاً من مقتضيات المواطنة في الدولة الحديثة”.
إن يوسف سلامة بدعوته هذه يخلط، في الواقع، بين ضرورة أن يناضل اليسار، في مرحلة أولى، من أجل قيام دولة المواطنة الحديثة، وبين مبرر وجود اليسار وسقف تطلعه. فمن الصحيح أن من المهام الرئيسية المطروحة أمام اليسار النضال من أجل قيام دول عربية حديثة يحل فيها مفهوم المواطن، المستقل بشخصيته، محل مفهوم الرعية، ويكون فيها الولاء للوطن على حساب الولاء للعائلة أو للعشيرة أو للمنطقة، ويتساوى فيها الجميع أمام القانون. إلا أن طموح اليسار يتجاوز هذا الهدف. فاليساري لا يطمح إلى مساواة المواطنين أمام القانون فحسب، بل يطمح –كما أشرت سابقاً- إلى تصفية كل أشكال اللامساواة الطبقية والقومية والجنسية، أو الحد منها على أقل تقدير.
تعميق الديمقراطية المتعددة الأبعاد
والأمر نفسه يمكن قوله عن مهمة تعميق الديمقراطية. فمن مهام اليسار النضال من أجل الديمقراطية السياسية، التي تقوم على قاعدة الفصل بين السلطات الثلاث والانتخابات الحرة الدورية والحريات العامة والفردية والتداول السلمي للسلطة، لكن اليسار لا يكتفي بهذا البعد من أبعاد الديمقراطية، وإنما يناضل كذلك من أجل تعميق الديمقراطية، بما يشمل بعديها الاقتصادي والاجتماعي كذلك. فالديمقراطية السياسية تظل منقوصة ما لم ترتبط بالتقدم الاجتماعي، كما أن المكتسبات الاجتماعية غير المرتبطة بالديمقراطية السياسية تظل عرضة للتبديد، كما بيّنت تجارب العديد من البلدان العربية.
فالديمقراطية، في نظر اليسار، قيمة إنسانية متعددة الأبعاد، تتجاوز المجال المحدود لممارسة السلطة، وتشمل جميع جوانب الحياة الاجتماعية، بما فيها أماكن العمل، والحياة الأسرية، والعلاقات بين المواطنين.
أهمية المسألة الوطنية والقومية
لقد كان هناك إجماع بين المساهمين في الملف على أهمية هذه المسألة. فقد رأى هيثم الشعار، أن ” الصراع الدائر في المنطقة وعلى المنطقة ضد التدخل والعدوان والهمجية الامبريالية هو معركة اليسار قبل أي تيار آخر”، وهو، في جوهره، صراع ” بنيوي مع الرأسمالية والاستغلال”.
وفي حين قدّر محمود وهب أن ” الاستمرار في هذا النضال [ضد الامبريالية والصهيونية] هو الذي سيفتح الأبواب أمام اليسار، وهو الذي سيمكّنه من تحقيق برنامجه الأهم في التنمية الدائمة الشاملة، والسعي لإحلال المبادئ الديمقراطية في السياسة والمجتمع”، اعتبر عطية مسوح أن اليسار يخوض نضالاً بمحتويين: “المحتوى الوطني القومي، الذي يأتي من ضرورة مواجهة الامبريالية والصهيونية، والمحتوى التغييري الشعبي، الذي يأتي من ضرورة مواجهة المهمات الملموسة في إطار نشاط كل حركة: مسألة الديمقراطية؛ ومسألة التخلف؛ ومسألة أوضاع الجماهير الشعبية الفقيرة “.
ويبدو لي أن الحديث عن ثنائية محتوى نضال اليسار أنسب، وأكثر انسجاماً مع دروس التجارب الماضية، من الحديث عن أسبقية النضال ضد الامبريالية والصهيونية على غيره. فالنضال ضد الامبريالية والصهيونية لن يحقق النجاح ما لم يرتبط، ارتباطاً عضوياً، بالنضال من أجل التغيير الديمقراطي وتجاوز التخلف وضمان المشاركة الشعبية، وذلك من منطلق أن ضعف المجتعات العربية داخلياً هو الذي يستجر، ويسهّل، التدخل الخارجي في شؤونها والعدوان عليها، كما أكد ياسين الحافظ ومن قبله قسطنطين زريق، وعلى اعتبار أن الأوطان الحرة السيدة تحتاج إلى المواطن الحر الذي يشعر أنه سيد نفسه في وطنه.
بيد أن المحتوى الوطني القومي للنضال اليساري لا يقتصر على النضال من أجل حل عادل للقضية الفلسطينية ومن أجل تحرير الأراضي العربية المحتلة، بل يشمل أيضاً النضال من أجل تصفية الوجود العسكري الأجنبي في بلداننا، ومن أجل أن تتحكم شعوبنا العربية بثرواتها الطبيعية، ومن أجل أن يقوم اتحاد عربي ديمقراطي بين دولها.
الموقف من المسألة الدينية
لقد احتل موقف اليسار من المسألة الدينية مساحة مهمة في مواد الملف، وبخاصة في المساهمة التي قدمها عبد الكريم الناعم. وهو أمر جديد ويعبّر عن تنامي الوعي بأهمية هذه المسألة.
والواقع أن اليساريين العرب، وفي عدادهم الشيوعيون، قد عبّروا على مر تاريخهم عن احترامهم للمعتقدات الدينية، ولم يقفوا أبداً في وجه معتنقيها، لكن الظروف الراهنة، التي تتميّز بمحاولات توظيف الدين في السياسة والخلط بين المجالين الديني والدنيوي، باتت تفرض عليهم الوقوف أمام الظاهرة الدينية، كظاهرة اجتماعية، وإبراز الطابع العلماني للدولة الحديثة التي ينشدونها.
ولا يقتصر الأمر اليوم على هذا فقط، بل يتعداه إلى اتخاذ موقف صريح من عضوية المؤمن في الحزب اليساري، بما فيه الحزب الشيوعي. وكنت في إحدى المحاضرات قد تطرقت إلى هذا الموضوع ، في ردي على سؤال وجهه أحد الحاضرين عن موقف حزب الشعب الفلسطيني من المؤمنين وهل بإمكان المؤمن أن يكون عضواً في الحزب، حيث أجبته بأن الحزب، الذي أكد في برنامجه، مبدأ ” حرية الاعتقاد باعتباره شأناً فردياً خاصاً “، عليه أن يفتح أبوابه أمام جمهور المؤمنين، الذين يشكّلون الغالبية الساحقة من أبناء شعبنا، كما أن الحزب الذي أشار في برنامجه إلى أنه يستلهم ” كل ما هو تقدمي وإنساني في التراث الفكري العربي والعالمي” لا يمكنه إلا أن يدرج في نطاق هذا التراث تراث رواد الإصلاح الديني، الذين نوّروا وأشاعوا فكراً إسلامياً، تقدمياً وإنسانياً ومنفتحاً على التفاعل الحضاري الإيجابي مع “الآخر”.
والواقع، أن موقف اليسار، بما فيه الماركسي، من مسألة الدين قد فُسّر تفسيرات خاطئة، وذلك عندما اختزل هذا الموقف في عبارة أطلقها ماركس وتمّ نزعها من سياقها. فمن يراجع التراث الماركسي يجد بأن ماركس نفسه قد تلمس الطابع المتناقض للظاهرة الدينية، التي قد تضفي الشرعية على نظام الاستغلال القائم، كما قد تلعب، في ظروف أخرى، دوراً احتجاجياً، بل وثورياً في مواجهة هذا النظام. أما روزا لوكسمبورغ، التي حاولت أن توظف البعد الاجتماعي التحرري في التراث المسيحي لصالح نضال الحركة العمالية، فقد اعتبرت أن الاشتراكيين أكثر إخلاصاً للمبادئ الأصلية للمسيحية من رجال الدين المحافظين. ومن المعروف بأن غرامشي قد أبدى اهتماماً كبيراً بالمسألة الدينية، وأدرك مدى تأثير الثقافة الدينية على الجماهير الشعبية.
الماركسية: حقل علمي وفلسفي، نقدي وتحرري، مفتوح على الجديد
كانت الماركسية حاضرة في مواد الملف، حيث عبّر عدد من المساهمين فيه عن قناعته بأن “نقد ماركس للنظام الرأسمالي لا يزال يحتفظ بأهميته وصحته”، كما ذكر سليمان تقي الدين. بينما أشار معتز حيسو إلى مسألة مهمة عندما دعا إلى “الوقوف على النص الماركسي في سياقه المتطوّر الذي ساهم فيه كثير من المفكرين، واعتبارإسهامات المنظّرين الماركسيين مصدراً معرفياً يمكن الاعتماد عليه، ودراسة الواقع الاجتماعي على أساس التفاعل والتبادل المعرفي “.
فالماركسية لا تزال تحافظ إذن على حيويتها، ولا تزال مرجعية لليسار، ليس بوصفها عقيدة جامدة، وإنما بوصفها حقلاً علمياً وفلسفياُ، نقدياً وتحررياً، افتتحه كارل ماركس وقُدمت فيه على مدى أكثر من قرن ونصف القرن إسهامات عديدة ساهمت في كشف آليات الاستغلال الرأسمالي واجتهدت في تحديد سبل تجاوزها. ونظراً إلى أن الحياة تبقى في تطوّر دائم، فإن هذا الحقل سيبقى مفتوحاً على مساهمات جديدة أخرى، تسعى إلى استيعاب الظواهر الجديدة التي يشهدها عالمنا، كظاهرة العولمة المتسارعة، التي تتم في ظل تفاوت كبير يتعمق في مستوى التطور بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب، وهي ظاهرة تختلف، في ظروفها وآلياتها، عن تصوّرات ماركس للتاريخ الذي يتحوّل بفعل الرأسمالية إلى تاريخ عالمي متجانس، وأشكال السيطرة العالمية الجديدة، كالسيطرة التكنولوجية أو السيطرة عبر المديونية والتبعية المالية، والتحوّلات العميقة التي طرأت على بنية الطبقة العاملة مع دخول العلم كقوة مباشرة في الإنتاج وتطوّر المعلوماتية والأتمتة.
ولا يجب أن تقتصر هذه المساهمات الجديدة، في حقل الماركسية، على دراسة هذه الظواهر فحسب، بل عليها أن تطاول، في نظري، المنهج المادي الجدلي نفسه الذي لجأ إليه كارل ماركس في دراسته لطبيعة التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية وتناقضاتها ومكانتها في التاريخ الإنساني. فخلافاً لمن يفصل النظرية عن المنهج، معتبراً أن النظرية قد تشيخ بينما يبقى المنهج حياً، أتبنّى، من جانبي، وجهة النظر القائلة بأن أي منهج علمي لا بد ّ من أن يخضع لتأثير التطوّر التاريخي الواقعي، بحيث يغتني مع اغتناء المعارف نفسها، التي تظل تقريبية وجزئية.
إن حيز هذه المساهمة لا يسمح لي بشرح وجهة نظري هذه، وهي، في كل الأحوال، وجهة نظر أولية وتحتاج إلى تعميق. لذلك سأكتفي بطرح الأسئلة التالية:
من المعروف بأن منهج ماركس المادي الجدلي قد استند إلى قوانين الجدل الثلاثة الرئيسية وهي وحدة وصراع الأضداد، وتحوّل الكم إلى كيف، ونفي النفي، فهل لا تزال هذه القوانين فاعلة في ضوء الثورات المهمة في المعارف، التي شهدتها علوم عديدة كالفيزياء والأحياء وغيرها؟
وإذا كانت المادية تعني أسبقية المادة على الفكر، فهل من الصحيح الاستمرار في القول بأن الفكر يوجد خارج المادة؟ أليس الفكر قادراً على الفعل بالمادة عندما يعي قوانينها؟
وهل الجدل هو أداة علمية لفهم العالم المادي الخارجي فحسب، أم هو أيضاً اداة علمية لفهم العالم الداخلي للإنسان، جوهره المادي والروحي؟
وإذ يظل إنتاج وإعادة إنتاج الحياة المادية هو العامل المحدد في التحليل الأخير للتشكيلة الاجتماعية، فهل هذا يعني أن “البنية الفوقية” هي وحدها المشروطة ب “البنية التحتية”؟ ألا تترك المنظومات الدينية والفلسفية والسياسية بدورها تأثيرها على “البنية التحتية” وتشرط طبيعة تطوّرها؟
تعدد مرجعيات اليسار الفكرية
وإذ تظل الماركسية مرجعية فكرية رئيسة لليسار ما دامت الرأسمالية قائمة، فإن اندراج الفكر اليساري في الفكر العربي والعالمي، التحرري والإنساني، يعني الاعتراف بتعدد مرجعيات اليسار الفكرية، وهي مسألة توقف عندها عطية مسوح، عندما ذكر بأن اليسار الشيوعي، المستند إلى الماركسية، ” سيكون أغنى وأخصب إذا استفاد من كل ما هو إيجابي في الفكر الإنساني الحديث، السياسي والاجتماعي، الداعي إلى العدالة ومقاومة الظلم، وإذا استوعب إنجازات الليبرالية السياسية”. ومع أن عطية قد رأى في ” الفكر القومي التحرري البعيد عن التعصب ” مرجعية لليسار العربي غير الشيوعي فحسب، إلا أنني أرى، من جانبي، بأن القومية العربية، بمضامينها التحررية والإنسانية، وتعبيرها عن طموح العرب إلى الوحدة وإلى مواكبة العصر، كما انعكست في كتابات قسطنطين زريق وياسين الحافظ والياس مرقص، في وسعها، بل ينبغي أن تكون مرجعية من مرجعيات اليسار الشيوعي أيضاً.
إن الاعتراف بتعدد مرجعيات اليساريين العرب الفكرية سيجعلهم قادرين على تمثّل كل الإسهامات النقدية والتحررية التي شهدها الفكر العربي منذ بدايات عصر التنوير وإلى الآن، ويحوّلهم إلى ورثة لكل ما هو تقدمي وإنساني في النضال العربي، وإلى معبّرين عن طموحات كتلة شعبية واسعة تتكوّن من طبقات وشرائح اجتماعية عديدة.
تنشيط العمل السياسي
أن تكون يسارياً اليوم هو أن تدافع عن أمرين: الفضاء السياسي والإنسان القابل للتسييس، هذا ما رأه فيصل دراج، وما وافقه عليه عدد من المساهمين في الملف.
وبما أن الحزب هو الإطار الرئيسي للعمل السياسي، حيث لا سياسة من دون أحزاب، يصبح من واجب الحزب اليساري اليوم، كي ينجح في تنشيط العمل السياسي في المجتمع، أن يعمل على تعزيز العلاقات الديمقراطية بين صفوفه، وأن يتبنّى طرائق عمل جديدة تفضي إلى زيادة اهتمام الشباب بالعمل السياسي، وإلى توسيع نطاق هذا العمل في الأرياف، بحيث لا يظل متركّزاً في المدن، وتزيد إسهام المرأة وتنهي احتكار الرجل للفضاء السياسي، وتعيد وصل العلاقات مع المثقفين، الذين كانوا تاريخياً حملة العمل السياسي في مجتمعاتنا.
بيد أن التصدّي لكل هذه المهمات يتطلب أولاً إعادة النظر في مفهوم حزب اليسار نفسه. فإذا كان حزب اليسار، ولا سيما الشيوعي، يعبّر عن مصالح الفئات الاجتماعية الكادحة، بسواعدها وأدمغتها، وهي الغالبية الساحقة من شعوبنا، ويناضل اليوم من أجل مهمات ذات طبيعة مجتمعية، كالنضال من أجل قيام دولة حديثة، ديمقراطية وعلمانية، ومن أجل حل المسألة الوطنية والقومية، بما يمهد الطريق أمام التحوّل الاشتراكي، فهل يبقى فاعلاً، في هذه الحالة، مفهوم “الحزب الطبقي”، الذي يشكّل إطاراً لتنظيم الطبقة العاملة وحدها، وحاملاً للوعي إليها من خارجها؟
قضايا أخرى
طبعاً لا يسمح حيز هذه المساهمة بالتطرق إلى كل القضايا التي تناولها المساهمون في هذا الملف المهم. لذلك سأكتفي بالإشارة السريعة إلى بعضها:
ففيما يتعلق بأسلوب النضال من أجل تحقيق أهداف اليسار، القريبة والبعيدة، كان هناك ما يشبه الإجماع على أن ” الحلم الاشتراكي لم يعد ممكناً تحقيقه عن طريق الثورة العنيفة، بل من خلال التراكم التدريجي في بناء علاقات تلعب الدولة فيها الدور المنظّم للتوازنات الاجتماعية “، كما ذكر سليمان تقي الدين، وأن كل تطوّر يسعى إليه اليسار ” يجب أن يكون بوسائل ديمقراطية”، وعبر ” التطوّر التدرجي التراكمي”، كما قدّر عطية مسوح.
فمفهوم الثورة لم يعد مفهوماً وظيفياً فاعلاً في ظل الأوضاع العربية والدولية الراهنة، الأمر الذي يفرض العودة إلى مفهوم الإصلاح والتعامل، تالياً، مع التغيير بوصفه عملية طويلة النفس ستمر بمراحل متعددة وتتخذ أشكالاً متنوعة. وهو تغيير لن يقتصر على الحيز السياسي، بل سيطاول العقليات والذهنيات، والحيز الاجتماعي، بما فيه بنية الأسرة العربية، ونظام القيم السائد في مجتمعاتنا، وأنماط السلوك المنتشرة فيها.
ومن جهة ثانية، لفت انتباهي أن المعبّرين عن اليسار العربي قد حسموا موقفهم من مسألة كانت مثار نقاش طويل في الفترة الماضية، وهي المتعلقة بالعولمة وكيفية النظر إليها. فقد بيّنت مواد الملف أن هناك قناعة اليوم بأن ” الاندراج في العولمة القائمة” هو ” وسيلة مواجهتها “، كما ذكر فيصل دراج، وأن ” الاندراج في اليسار المتعولم، الذي تشخصنه حركات اجتماعية متعددة”، هو ” ضرورة للإنسان العربي الذي يريد أن يكون يسارياً “، كما أضاف.
فإذا كانت الأممية ستظل من المهمات الثابتة في برامج اليسار، إلا أن التحديات الكبرى التي يواجها الجنس البشري في عالم اليوم، والنابعة من تزايد المخاطر البيئية ومن اتّساع مساحات الفقر ومن انتشار الأوبئة وتعمق التفاوت في مستوى التطور وفي مستوى توزع الثروة على الصعيد العالمي، باتت تفرض توسيع مفهوم “الأممية البروليتارية” الطبقي الضيق، والبحث عن أشكال جديدة من الأممية تكفل قيام تضامن فعّال بين كل المتضررين من الرأسمالية المتوحشة ومن كل الحريصين على مستقبل النوع البشري.