الثقافة والفن

الموسيقار أحمـد بـن أحمـد قاسـم في ذكـرى (24 عاماً ) على رحـيله (اللـقـاء الحُـلـم)

صـادف اليوم السبت الـموافــق 1 / إبــريــل /2017 م مـــرور ( 24عاماً ) على رحـيل الـفنان الـموسـيقار الـعـدني (الــفــذ) أحمد بـن أحمد قـاسم.. وفي هــذه المـنـاسـبة – الإحـتـفـالـية أسمحوا لي أن أحكي للـقـراء الأفاضل (قـصة كـنت أحـد شخوصها) وكانت (البطولة المطلقة) تـتجـسـد في (عـظمـة) حـضور وسعة صدر فـنانـنا ( المتألق بن قاسم ) ..

بـــدأت عـلاقـتي بالموسيقار أحمد بن أحمد قاسم في(عام 1980م) بمعية باقة منتقاة من أهم الأدباء والمثقفين والشخصيات السياسية والإجتماعية جلست مبهوراً .. مأخوذاً .. مذهولاً في (حضرته الفنية الموسيقية الموسوعة) وإلى جانبي يقف أستاذي الإعلامي القدير والمخضرم جميل مهدي الذي نظم ونسق وهيأ لهذا الـحُـلم (اللقاء الفني).

أتـذكـر جيداً قلقي وخوفي وتحفظي في تلك الفترة من الإبحار في عـالـم الفن وأعترف بملء الفم أن الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في إقناعي ودخـولـي عـالـم الـغناء حدث بتشجيع الأستاذين الرائعين جميل مهدي والفنان العظيم ( الإنـسـان ) محمد عبده زيدي وإصرارهما ورغبتهما في الخوض بما لم أخطط له ولم يكن في اختياري وحساباتي بأن أكون (فناناً)- وبالفعل تم اللقاء المرتقب مع الموسيقار الكبير أحمد قاسم (وجهاً لوجه) وصديقي الطيب الإعلامي الكبير جميل مهدي إلى جواري يشجعني ويؤنسني بإطرائه على موهبتي أمام كل الحضور وبالتحديد كان حديثه مباشرة للفنان الكبير أحمد قاسم الذي أستمع إليه بإصغاء وبهدوء، وبدا واضحاً وجلياً من خلال حديثهما مكانة وأهمية الصداقة والعلاقة المتميزة الحميمة التي تجمع بينهما في تلك الفترة واتسمــت بمشـاعر المــحبة والتقدير بين القامـــتين (بن قاسم) و (جميل مهدي)،وفي الواقع أسعدني كثيراً تقديم الأستاذ الإعلامي المخضرم جميل مهدي للشاب الواعد عصام خليدي حينها (مشروع فنان) .

كان حـديـثه في غــايـة الحماس والـقناعــة بـمـوهبتي وقـدراتـي الــفنـية – أتــذكر ما صرح به في ذلك اللقاء كلمات لا يمكن نسيانها ما حييت كقوله مخاطباً الموسيقار أحمد قاسم والحضور النخبوي: هذا الفتى (غض الإهاب) يحفظ عن ظهر قلب ويغني بمهارة وإقــتـدار جل ومعظم أغاني الـشـرق الـعـربي يـهـوى ويـعـشـق رواد الـغناء وأساطينه :الموسيقار محمد عبد الوهاب/ فـريــد الأطــرش/ أم كـلثوم/ ليلى مراد / كارم محمود/ محمد فوزي/ محمد قنديل/ صالح عـبد الحـي/ عـبـد العـزيز محـمـود/ عبد الغني السيد / سيد درويش/ سلامة حجازي…وآخرين.

لم يصدق موسيقارنا الكبير بن قاسم ديباجة ومقدمة الإعلامي القدير والمتألق أجـاب على الفـور: هذا (غير معقول) يا أستاذ جميل مهدي كيف يمكن ان يكون شاب بمثل سنه الصغيرة يستطيع التعامل والتعاطي مع كل هذه المدارس الغنائية الكبيرة العملاقة بتراثها وثرائها النغمي وبخصوصيتها ومزاياها الغنائية الموسيقية بارزة المعالم في الغناء العربي بشكل عام،…صمت قليلاً ثم وجه سؤالاً محدداً مفاده: (ماذا تحفظ من أغنيات الموسيقار محمد عبد الوهاب .. يا عصام لأصاحبك في العزف على ألة العود) .. في واقع الأمر وبمنـطـقي الـيوم وبـعـد مضي هـذه السـنوات الطويـلة كـان ردي (مفاجأة كبرى) قلت له ببراءة وعفوية والجميع يستمع إلينا بإمكانك يا أستاذ أحمد أن تعزف أي لحن أو أغنية (للموسيقار محمد عبد الوهاب) وستجدني أشاركك وأرافقك الغناء بصوتي أينما شئت وأحببت، وهنا رد ضاحكاً (بن قاسم) رحمه الله بطريقته المعروفة المحببة لكل عشاقه: (أدركني…الحقني يا أستاذ جميل تلميذك وصديقك (الـفـنان الصـغـير شايــف حـالـه) يقول هذا الكلام الخطير…الكبير…؟!!).

ولـكـن جـمـيل مـــهــدي بــســـرعــة ابــتــسـم قائلاً: اختبره…جربه.. فالتجربة خــير برهان، وبالفعل أمسك الموسيقار أحمد قاسم عوده المشهور والمعروف بشكله الأنيق البديع المشهود بنغماته الساحرة الفاخرة الراقية طرباً وأصالة، وعزف على أوتاره بأنامله الذهبية الرقيقة المضيئة وهجاً متدفقاً ينفثُ ويشعُ في النفس والروح إحساساً دافئاً بالفرحة والحياة، عزف أغنية للموسيقار محمد عبد الوهاب وكلمات الشاعر المصري الكبير أحمد فتحي عنوانها (الكرنك) فشدوت بتلقائية بصوتي ونبراتي المعبرة الصادقة بفطرة وبراءة (ربانية) على نغمات أوتار عوده المتأصلة الـفـذة الـمُجـربـة بأغنية الكرنك (متسلطناً بإجادة وبراعة وإتقان) في الكوبليهات التي اختارها متنقلاً بين مقاماتها ومقاطعها وجملها الغنائية الموسيقية الخالدة، شدوت بكل أحاسيسي وجوارحي التي أمتلكها بالفطرة وهبة الخالق سبحانه وتعالى، فجاء صوتي إليهم حسب قولهم صافياً عذباً مؤثراً في هذه الأبيات الشعرية الفصحى المختارة من ( قصيدة أغنـية الكرنـك)…

طاف بالدنيا شعاع من خيـال / حائر يســأل عن ســر الليــالي/ يا له من سرها الباقي ويالــي/ لوعـــة الشــادي ووهم الشاعـر/ حين ألقى الليل للنور وشاحـه / وشكى الطل إلى الرمل جراحه/ يا ترى هل سمع الفجر نواحه / بيــــن أنغـــام النســـيم العاطـــر/ أين يا أطـــــــلال جندُ الغابر/ أين أمون وصــــــوت الراهـــب / وصلاة الشمس وهمي طاربي/ نشــــوة تزري بـــكرم العاصـــر/ أنا هيمان ويطول هيامــــــــي / صور الماضي ورائي وأمامـــي / هي زهري وغنـائي ومـدامـــي / وهي في حلمي جناح الطـــــــائر/ في رياض نضر الله ثراهـــــا / وسقى من كرم النيـــل ربــــــاها / ومضى الفجرُ إليها فطــــواها / بيـــــن أفراح الضـــياء الغـــــابر..

بعد ذلك لم يتوقف (ملك آلة العود) الموسيقار أحمد قاسم أستمر بعزفه الثري الباذخ المترع المترف بطاقات مليئة بالشجن والعاطفة الإنسانية اللامتناهية ليأخذني مع عوده مصاحباً صوتي إلى أوبريت (بساط الريح) وأغنية (أسأل الفجر والغروب) وأغنية (يا فرحة المية بالحسن والخفة) للموسيقار فريد الأطرش مردداً مقاطعها ومشاركاً في الغناء بصوته الجهوري القوي المعبر المتفرد في ساحة الغناء اليمني والعربي، فسبحنا وحـلـقنا في سماوات الـفـن والطرب الأصيل مع أغنيات عمالقة الغناء العربي ومشاهيره.

سُجل هذا اللقاء (الحدث) بيني وبين الموسيقار الـعـدني والـعـربي أحمد بن أحمد قاسم في (مـديـنة عـــدن) على شريط كاسيت (مهره بتوقيعه) فناننا المجدد والمطور في غنائه وبموسيقاه المهموم بإشتغالات فنية حديثة وبناءات معمارية موسيقية لحنية راقية مترفة فاخرة أرتقت بالغناء الـعـدني واليمني والعربي المعاصر والحديث، مهره بإشادته وثنائه على صوتي وما يختزله من إمكانات فنية وطاقات إبداعية رائعة علق وأشار إليها بهذه العبارة التي لا يمكن نسيانها أن (عصاماً عندليب الغناء الـعـدنـي الوعــد القادم) وبطبيعة الحال أستمع إلى هذا الشريط الثمين والهام الذي بحوزتي وأحتفظ به في مكتبتي الخاصة العديد من الأحبة المقربين منهم: ملك الغزل الشعري محمد سعيد جرادة رحمه الله والشعراء الأدباء: الفقيد عبد الرحمن السقاف / نجـيـب مـقبل/ جميل ثابت/ علـــي حيمد/ والإعلامي والقاص محمد عمر بحاح / الإعلامي المخضرم الراحل عبد القادر خضر/ المخرج التلفزيوني المتميز جميل علي عبيد/ والأستاذ القدير علي محمد يحيى/ والشخصية الاجتماعية أنور خان/ وولدي (فنياً) نجوان شريف ناجي، وغيرهم من الزملاء والأصدقاء الأعزاء الذين شاركوني على مدى (ساعة كاملة) في الإستماع والإستمتاع لمختارات صوتية طـربية مسموعة (وثَـقَـتْ ذلك اللقاء العظيم مع الموسيقار الكبير أحمد بن احمد قاسم) ،وأيضاً الإطلاع على صفحات مهمة أعـتـز بها كثيراً في حياتي تضمنت في محتوياتها وتفاصيلها الكثير من المفاهيم والقيم الفنية والأدبية والتاريخية التي عَـلِقـَتْ ورسخت بذاكرتي لتنعكس تجلياتها على صعيد الواقع الملموس في سلوكي الإنساني والفني الذي تبلور منذ وقــت مـبكر بالوعي والإدراك بماهية دور (الــفــن) كوظيفة إنسانية سامية تساهم في تغيير واقع المجتمعات نحو الأفضل. ومما لا شك فيه أن اللقاء بفنان بحجم أحمد قاسم وتبــعات مـا سُـجـل فــي الــشــريـط النادر، الأثر البالغ في مكوناتي الـثقافيـة/ الـموسيقـية/ الإبـداعيـة وفي الاستـفـادة منه كمرجع أعود إليه حفـر ووشـم بالروح وبالـعـقــل والقـلـب.

خـاطـــــرة:

توطدت العلاقة وتوالت اللقاءات (في الجلسات والزيارات الخاصة والعامة الفنية والإنسانية بالموسيقار أحمد بن أحمد قاسم) وبطبيعة الحال كانت لا تخلو من المواقف الهامة فأزداد رصيده الاستثنائي في قلبي ووجداني بالمشاعر والأحاسيس المختلفة الممزوجة بالحب والمودة والإعجاب بشخصه وبـفـنـه الـراقي الـخـالــد.

كلمة لابد منها :

مضت (24 عاماً ) ونحن نطالب ونستغيث ونناشد الجهات الرسمية والمختصة بضرورة أهمية النظر والالتفات الى ماوصل إليه حال المبدعين من تدهور ومعاناة الآلام المضنية الفتاكة المميتة بسبب المرض والفقر وشدة وطأة وقسوة الاحباط والاكتئاب والإهمال والتغييب والتهميش … كل هذه السنوات العجاف تمر وتمضي ولم نشهد ونحصد خلالها من الجهات المسئولة إلا الــوعــود الـعـرقــوبـية الـبـراقـة الــكـاذبــة – لم نــر أو نسمع على السطح في عموم المشهد الثقافي الإبــداعي بــوادر حـسـن الـــنــوايــا تــجــاه الأدبــاء والـفــنانــيـن والــشعـراء والمـثـقـفــيــن.. هم يصرون على بقائنا في أسفل قائمة أجندتهم السياسية ومشروعهم المدني الحضاري المزعوم .. والكل منشغلون في ترسيخ وتعميم ثقافة النهب والفيد .

نحن في زمن المصالح العظمى ومنطق الأقوياء صناع الموت من يجيدون قـراءة ( سيناريو المخرج الكبير ) تحت الشعارات الرنــانــة والفضفاضة الـعـدالـة .. المساواة وحــقــوق الإنــسـان .

نحن نــدفــع الثمن باهـظـاً في كل لحظة قــهـراً وحسرةً وكـمــداً في الـقلـوب ومرارة وعلقماً في الحناجر .. وإني لولا حقوق وواجب الصداقة والسنين التي جمعتني بـغــالبــية الــفنانــين والــمبدعــين لكـنتُ فــضلت وآثـَــْرتُ الــصمت والــسـكوت في ( زمــنٍ به الأحياء أموات…؟!!) ..

رحم الله الموسيقار الفنان الكبير أحمد بن أحمد قاسم الذي عاش خالداً في محراب (الفن) وأستطاع أن يزرع ويصنع بدواخلنا وقلوبنا وضمائرنا السعادة والمحبة والتسامح والأمل في أبهى وانصع وأروع صوره وتجلياته الأخلاقية والإنسانية .

المصدر: عدن تايم

إغلاق