كتابات

((المحضار يرثي شحرورة المكلا الفنانة الشعبية عائشة نصيرة))

ريبون / كتابات

بقلم الاستاذ: سعيد محمد بن هاوي باوزير

غيل باوزير——حضرموت

……………………………………………

اتذكرمنذ عقودخلت من القرن المنصرم وبالذات في منتصف السبعينات عندما كنت في زيارة للفنان القديرالراحل كرامة مرسال بمنزله بحي السلام اسمعني مقطع (بروفة)من اغنية محضارية تخميستها او( شلّتها) تقول

( حمام الروض يبكين بحرقة وحسرة عالعناقيد) وهولحن قريب من الحان الفنون الشعبية النسائية الحضرمية ومااكثرها والتي يستمدمنها المحضاروغيره من الشعراء والملحنين الكثيرمن الاغنيات لكونها تاتي من هذا الموروث الشعبي الثروالمتعددوالغني وكان اللحن اقرب الى ( السندة) او الزفين المكلاوي…وكان صديقنا الفنان بوصبري يعد حينها للتسجيل اوالشريط الجديداو( المقيل) الذي سيسجله لاستديوهات حضرموت عندماكان اتحادالفنانين يتولى هذه الامور وباشراف لجان نصوص

ولقدكان لي شرف حضورهذا المقيل والتسجيل بمنزله المتواضع بحي السلام

والذي اختارنصوصه بعناية ودقة وتنوع

كوجبة دسمة وكان للمحضاروغيره من شعراءحضرموت نصيب وافرفيه..واستغربت كيف تتسع هذه الغرفة والمادلكل هؤلاءالعازفين واصحاب الاستديوهات والمدعوين حيث كانت الخواطروالقلوب تتسع لبعضها في زمن الفن الجميل

وكان هذا النص المحضاري لفت نظري وتحدثت عنه في برنامجي الاذاعي ( احلى ماعندي) انذاك

ولكن هذا النص واللحن المحضاري الذي غناه المرسال غناه لمرة واحدة فقط ولم استمع اليه مرة اخرى سواءًمن المرسال اومن غيره لكونه نص ( مناسباتي) ينتهي بانتهاءمناسبته..وحاولت مجددًا البحث عن هذه الاغنية التي اكتسبت بتقادم السنين

الاثرالفني والتاريخي لكون الكثيرمن المهتمين بل والمعاصرين وبالذات شباب الجيل الحاضرلايدركوا القيمة الفنية والتاريخية والجمالية لهذا النص..ولبعض النصوص المحضارية وملابسات ظروفها ودلالاتها..

وذات مرة فاتحت الزميل الفنان محمدباحميد بضرورة اعادة تسجيل واحياءهذا النص مجدداً ولكنه اشاراليّ انه لم يسبق له سماعه مثل العديدمن الاغنيات..وغابت الفكرة مع مشاغل الحياة…وشاءت قدرة الله ان تاتي الينا الاغنية كاملةً بصوت المرسال من شريط نفس المقيل عندما ارسلها – مصادفةً- صديقنا العزيز عاشق التراث والفنون عبدالعزيزالصيعري ( ابوسعود)حفظه الله في قروب حضرموت الفن والاصالة

عندما ارسلها للقروب وهولايدري كما لايدري غيرة عن القيمة الفنية والتاريخية والاثرالجمالي لهذه الاغنية المحضاريةوعن مناسبة النص الغنائي

وغيرهامن النصوص الغنائية الجميلة التي طواها النسيان وتقادم السنين والتي يجهلها كثيرمن شبابنا في الوقت الحاضر….واعدت الاستماع للاغنية مرارا حيث حركت لديّ الكثيرمن الشجون والتذكارورجعت بذاكرتي الى الوراء والى عقودقدخلت وتدفقت الدموع غزيرة فكان لزام عليّ ان اسلّط الاضواء على هذا النص المحضاري من حيث قيمته التاريخية والفنية والجمالية

والظرف الذي وُلدفيه لكونه ينتمي الى اشعارالرثاء المغنّاه مثله ومثل يادمعة العين.وفي ماقضاه الله ماعندي اعتراض.وتمرالاربعين وتاتي الاربعين….الخ وللاسف لم يتم توثيق النص ضمن كتاب ( بكائيات) الخاص بمراثي المحضاروالصادربصنعاءعام٢٠٠١

وبالمقابل رثى شاعرنا الغنائي الراحل صالح عبدالرحمن المفلحي الفنانة نصيرة بقصيدة مطولة جاءت في ديوانه خواطرفي انغام والتي تقول بعض ابياتها

  • يااول الشادين في فن الغناء للغانيات

احييت كم افراح في هذا البلدومناسبات

العاصمة تبكي ولي هن في الضواحي باكيات

ياكم وكم معجب بفنك في البلدوالمعجبات

ايضاً ومن عاشرك عشرة طيّبة حتى الممات

ماتنبت الصفراء شبام الااللالي الغاليات

والفنانة الشعبية الراحلة عائشة نصير كما يطلق عليها العوام( المشترحة اوالطابلة) هي الفنانة الشعبية الاولى منذ ماقبل الاستقلال وهي مغنية بصوتها العذب القوي والمميز قبل مانعرف جهازالميكرفون اليوم وهي شاعرة مقتدرة وملحنة وايقاعية حيث توافرت فيها العديدمن المواهب والصفات جعلت الكل يتنافس في طلبها

وكانت موهبة نسائية متفردة استطاعت ان تشق طريقها وان تحتل لها مكانًا مرموقًا وشهرةًذائعةً وخلودًا وتميّزاً

واذكرعندماكنت صغيراًزيارتها لمنزلنا المتواضع بالغيل مع فرقتها الشعبية لزيارة الوالد لكون الوالد متعددالاهتمامات لانه له العديدمن الالحان والاصوات النسائية والتي تغنت بها ابرزفنانات حضرموت وبعضها موثق باذاعة المكلا( بدءً من نصيرة.مقاشمية.هارشة.زومحية.فاطمة عوض.بروكات.حبانية….الخ)

وكان وصول الفنانة نصيرة الى غيل باوزيرفي الستينات لغرض احياءحفلات زواج يعتبرفي حدذاته حدث فني فريد  وايام غيرعادية تتناقل الناس اخبارها واشعارها واغنياتها وتتوافد النسوةلسماعها ورؤيتها وتشيع بحضورها اجواء من التميزوالبهجة والفرح لانها فنانة ليست عادية  وكان الكل يتمنى ويحرص على مشاركتها في حفلات زواجة وبالذات الاثرياء وكبارالقوم حينها…

وظلت بعدالاستقلال محتفظة بمكانتها تواصل العطاء وبعدان اجهدتها السنون رحلت عن دنيانا الفانية في اجواء عام ١٩٧٤ بالتقريب

حسب مااذكروخلفّت سجلاً حافلاًبالعطاء الفني والذكرالطيب

وجاءت اغنية المحضار الانفة الذكر( حمام الروض يبكين بحرقة وحسرة عالعناقيد) تعبيراً صادقابفداحة الخطب والخسارة التي المّت بالوسط الفني وبالمقابل وفاءً وعرفانا بدورها واعترافا بمكانتها وبالذات ممن يدركوا قيمة الفن .وكانت هذه الغنائية الرثائية

والتي نطالب اليوم شبابنا والمهتمين بالموروث الفني وغيرهم من فنانين وباحثين باعادة النظروالتامل في هذا النص الذي تعمّدابومحضاران يجعل لحنه من روح هذه الشروحات النسائية

كما شبه المحضارالفرقة الشعبية التابعة لها بعدوفاتها اشبه بحمام الروض التي تبكي بحرقة بعدوفاة الشحرورة وذلك في التخميسة( حمام الروض يبكين بحرقة وحسرة عالعناقيد)والتي استهلها بقوله: تغرّدليه عادك ياالبلبل الشادي

سُكُت مادام سكتت شحرورة الوادي

وودعها بدمعك ويكفيك التغاريد

حمام الروض يبكين بحرقة وحسرة عالعناقيد.

ويتواصل هذا الشجن المحضاري في افراغه لهذه الشحنة الشعورية في البيت الثاني باستخدامه اسلوب( التورية) من المحسنات البديعة في علم البلاغة وهي كلمة تحتمل معنييّن المعنى الاول ظاهرغيرمقصودوالمعنى الثاني خفي غيرظاهروهوالمقصود حيث استخدم بذكاءوشاعريةبتوظيف اسم ( عائشة) لتحتمل معنى العيش والحياة والمعنى الاخرعائشة نصيرة وهذه هي البصمة السحرية الفريدة التي يضعها ابومحضارفي بعض قصائده والتي تحتاج الى شخص ماهرقادرعلى فك رموزهذه الشفرات يقول المحضار

نعم سكتت وراحت من دون ميعادي

وبقيت ( عائشة) في خاطري وفؤادي

وفي سمعي نرددالحانها ترديد

يذكرني بها صوت الطبل والحادي

وعازف ناي ساعة يعزف وعوّادي

ويبكي العودلاغنت والحسان الغيد

فايُّ وصفٍ هذا ؟؟ ويبكي العودلاغنت

لقدتشبّع المحضاربهذه الفنون وادرك جمالياتها واستمدمنها وهاهويقرويعترف بذلك الوصف والاثرالجمالي والدورالطيب الذي لعبته في اثراءالفن النسائي الحضرمي المتميزوالخاص بعالم المراة بعيدا عن اغنيات الرجال بعكس مانسمعه اليوم في ظل غياب هذه التقاليد

وهاهويواصل رائعته البكائية بهذا البيت الفريدوالصورة البديعة والتشبية الرائع والمتميزعندما تحدث عن حلاوة صوتها وغنائها بحيث يتجاوب مع غنائها وحنّة صوتها فيردد النحل ( النوب) ويرددحنينها وكان النحل اشبه بالمقري( قاري القران) المبتدي الذي يتعلم احكام التجويد

فيالله ماهذه الصورة ( الفلتة) من اين جاءت؟ وكيف جاءت ؟ انه الحب والوفاء والتوحّدبالحدث..و..و..فعلا الحب الصادق ياتي بالكلام الصادق والجميل

لقدقفزت هذه الصورة والتشبية من قاع الذاكرة التي تربّت في رباط   الشحرومكارم الاخلاق ومن اجواءهذا المحيط الروحاني والنقاءوالمتون والقراءات والموروث العلمي والذوقي حيث اختزنت ذاكرته وهوصبي هذه المشاهدوافرزتها فاتت هذه الصورة والتشبيه الذي كدنا نحسدعايشة نصيرة عليه فياسبحان الله (فللناسِ فيمايعشقون مذاهبُ) وللامانة لم اصادف خلال قراءاتي المتواضعة مثل هذه الصورة البديعة والتشبيه المبهروالمتفرد يقول المحضار

اذا حنّت وناحت بالصوت جرّادي

يحن النوب معها في جوّها الهادي

كان النوب مقري متعلم التجويد

ولقدتعودنا ان ابيات الاغنية بين ٤-٥-٦ ابيات ولكننا نحس ان الدفقة الشعورية عندالمحضاراكبرمن ان تستوعبها هذه الابيات فكانت هذه الغنائية سبعة ابيات

حيث يختتمها بهذين البيتين

بدورالفن غابت ياظلمة ابلادي

وياحزن المكلا والغيل وسعادي

على ام المغاني والفن والتجديد

بكيناها بحرقة ابّاً واولادي

وودعنا بعرف الريحان والكادي

ويكفي فنها خلّدذكرها تخليد

حمام الروض يبكين بحرقة وحسرة عالعناقيد

هكذا اثارث اغنية المحضارلديّ المشاعروالشجون فكانت هذه الخاطرة العابرة للتذكارليس الا…وذلك لنحييّ بهذه التحية العاطرة الذكرى  الخامسة     والاربعين لرحيل الفنانة الشعبية عائشة نصيرة  الفنانة والشاعرة اوكما اطلق عليها شاعرنا المحضارلقب ( شحرورة الوادي) وهي احق واجذربذلك

رحم الله شاعرنا المحضار وشاعرنا المفلحي والفنانة عايشة نصيرة والفنان كرامة مرسال

……………………………………

وارجوالمعذرة للاطالة وللجميع كل الحب والاحترام وصادق التحية

………………………………….

(.مرفق مع المقال مقطع من هذه الاغنية بصوت الفنان كرامة مرسال…)..

……………………………………

 

 

 

 

 

بقلم الاستاذ سعيد محمدب ن هاوي باوزير

……………………………………………

غيل باوزير.حضرموت

في الخامس من ابريل ٢٠١٩

…………………………….

إغلاق