كتابات

بعض ملامح تطوير الفكر الاشتراكي منذ ماركس ولينين وحتى الآن

يغري هذا العنوان بالدراسة المتأنية والشاملة لتطور الفكر الاشتراكي خاصة بعد ما يزيد على ربع قرن من سقوط المعسكر الاشتراكي، ثم انفراد الرأسمالية بالساحة العالمية كلها وهو ما اغرى احد مفكري الامبريالية الكبار باعلان نهاية التاريخ، اذ اصبحت علاقات الانتاج الراسمالية سائدة وكانت كل من ثورة اكتوبر الاشتراكية وثورة الصين الاشتراكية قد ادت الى زعزعتها وشرعت الابواب على البدائل سواء امام حركة التحرر الوطني او الاحزاب الاشتراكية والاحزاب الشيوعية في بلدان اوربا وامريكا، وتراكمت ادبيات كل من حركة التحرر الوطني ودولة الرفاه الاجتماعي وهي تطرح اسئلة جديدة على الاشتراكية.

 

ورغم ان الفصل بين النظرية والممارسة هو اجراء غير علمي ترفضه الماركسية فانه يبدو هنا ضروريا الى حد ما كعمل اجرائي يسهل التقاط الافكار والملامح الرئيسة للتطور الفكري بعد اضافات كل من لينين وماوتس تونج والقائمة الطويلة من الآباء المؤسسين للنظرية بتفرعاتها وميادين اشتغاالها، ثم حصاد التجربة الواقعية للاتحاد السوفيتي والصين بعد ربع قرن من سقوط التجربة الاولى لبناء الاشتراكية وتجاوز الراسمالية في كل المعسكر الاشتراكي والصين، وهو ما اسماه سمير امين بالاشتراكية الواقعية، او مازلت اسميه انا البروفة الاولى لبناء الاشتراكية بعد خمسة قرون من سيادة الراسمالية.

 

وكان غالبية الآباء المؤسسين، وكل من جاء بعدهم من المفكرين الماركسيين على امتداد المعمورة، مناضلين سياسيين ويعرفون جيدا بطبيعة الحال ان النظرية تأتي عادة بعد الممارسة، وان الاشتراكية هي نتيجة الصراع الذي يجري للوصول اليها، اذ ان كل تطور اجتماعي يقوم على الصراع، ولهذا احتفظت اسهاماتهم النظرية بروح الممارسة، وبينوا كيف ان الفكر النظري هو حصيلة سيرورة اجتماعية متمثلة في التملك المعرفي للواقع بمجمله.

 

اختار من هذه القارة الشاسعة من الافكار والرؤى التي انطلقت من الماركسية في القرنين العشرين والواحد والعشرين وحتى بعد سقوط التجربة الاولى للاشتراكية، ثم التحولات العاصفة التي حدثت في كل من الصين وفيتنام، والاصلاحات الواسعة التي اجرتها الاحزاب الشيوعية في منطلقاتها وبنيتها وآليات عملها، اختار كل من انطونيو جرامشي الذي رغم انه عاصر الثورة البلشفية فما تزال عملية احياء لافكاره ورؤاه جارية على قدم وساق وملهمة لملايين المناضلين من اجل الاشتراكية على امتداد المعمورة. وقد وجدت افكاره رواجا هائلا منذ نهاية الستينات حين اخذت بوادر الازمة في المعسكر الاشتراكي تظهر.

 

جرامشي هو منظر الهيمنة والكتلة التاريخية، منظر التحول الاشتراكي في ظروف حرب المواقع، وديمقراطية المنتجين وسلطتهم او ما اسماه بسلطة المجالس، وادوار المثقفين، وقضايا الفلاحين، ومفهوم المثقف العضوي والهيمنة في تراث جرامشي هو مشروع تحول اشتراكي ينطلق من المجتمع المدني سلميا بالاساس وداخل كتلة تاريخية جديدة تلعب فيها الطبقة العاملة دورا محوريا لكنها ليست وحدها وتتاكد فيها وحدة القاعدة والبنى الفوقية بفعل وساطة المثقفين والحزب الذي هو مثقف جماعي، وقدم جرامشي انتقاداته الواسعة ضد الستالينية والبيروقراطية والاصلاحية مقدما المفهوم الاعمق للديمقراطية.

 

كذلك برزت الماركسية التحليلية التي بقي مضمونها الاساسي هو رد الاعتبار للديمقراطية باعتبار ان الاشتراكية هي هذا المعنى الاعمق للديمقراطية ولا يجوز في ادبيات الماركسية التحليلية ان تظل الديمقراطية حكرا على الليبرالية التي لا تعترف بالصراع الطبقي وتتعامل فحسب مع البناء الفوقي في المجتمعات، لذا بقيت الديمقراطية في ممارستها ناقصة حتى ان غالبية الكادحين في الولايات المتحدة لا يأبهون بالانتخابات ولا يشاركون فيها وهو ما يعني ان الديمقراطية اذا لم تكن مطلبا اقتصاديا اجتماعيا متكاملا فسوف تبقى ترفا للنخبة، ومع ذلك فالدعوة الديمقراطية هي الجانب الايجابي في الليبرالية.

 

وللذين يتهمون الماركسية بمخاصمة الديمقراطية عليهم ان يعودوا لكتابات ماركس ولينين التي اكدت مبكرا ان توسيع الديمقراطية شرط لا بد منه للانتقال الى الاشتراكية.

 

اما سمير امين – الذي قرأ مبكرا جدا قبل سقوط الستالينية ثم سقوط المنظومة الاشتراكية كلها- عوامل التآكل ثم الانهيار التي كانت اخذت تنخر في قلب النظام الاشتراكي رغم كل ما كان قد انجزه على صعيد الصراع العالمي وارساء العدالة الاجتماعية والتقدم في مستوى الصناعة والتسليح، والذي تبين فيما بعد انه كان احد الاسباب الرئيسية في سقوط النظام. فقد كان ما طرحه سمير امين في ساحة الصراع العالمي هو مشروع فك الارتباط داعيا المشروع الاشتراكي وحركة التحرر الوطني، التي قرأ هو ايضا حدودها التاريخية، الى فك الارتباط مع الرأسمالية وبلدانها ومؤسساتها، رغم انه يرى في تجربة الصين نموذجا ايجابيا يمكن ان يحتذى. وطرح اشتراكيون آخرون في مواجهة فك الارتباط بناء عولمة بديلة من اسفل، وهو ما بلوره “والدن بيلو” في كتابه بهذا الاسم.

 

اما مهدي عامل الذي اطلق عليه الظلاميون في بيروت رصاصات قاتلة، فمات قبل سنوات من انهيار المنظومة الاشتراكية فكان حتى آخر لحظة من عمره القصير يتعامل فكريا مع تجربة الاتحاد السوفيتي وبلدان اوربا الشرقية باعتبارها اشتراكية شبه متكاملة واضاف مهدي عامل الى الادبيات الماركسية مفهوم نمط الانتاج الكولنيالي باعتبار التبعية للرأسمالية العالمية وجها من وجوهه، كما انه هو النمط السائد في البلدان العربية، وحتى يواجهه الاشتراكيون بهدف اسقاطه فمن الضروري ان يرتبط النضال الوطني ضد الكولنيالية ارتباطا لا ينفضم بالنضال من اجل الاشتراكية.

 

وانطلاقا من الافكار الاساسية للماركسية ومن تبلور الافكار والرؤى الجديدة التي خرجت من معطفها وبقيت حية حتى بعد سقوط ما سميته انا بالبروفة الاولى للاشتراكية التي سقطت بعد سبعين عاما، تاسست منظمات واحزاب جديدة وحركات اجتماعية ودينية. ويقف “لاهوت التحرير” في امريكا الجنوبية الذي استهلم الماركسية ومزج بين دعوتها للتحرر والغاء الاستغلال وبين العناصر التقدمية في الديانة المسيحية، ولعب قساوسته وانصاره ادوارا كبيرة في مقاومة كل من الدكتاتوريات العسكرية والهيمنة الامريكية، وخرج من معطف لاهوت التحرير قادة وحكام تقدميون في هذه المنطقة من العالم التي تعتبرها الامبريالية الامريكية حديقتها الخلفية.. ولا يستطيع اي محلل نزيه ايا كان منطلقه الفكري ان يتجاهل التأثير العميق للتراث الماركسي بكل تجلياته في موجات التحرر المتلاحقة في القارة وفي اشكال ومضامين المنظمات والاحزاب والقوى الاجتماعية والشعبية التي اخذت على عاقتها مهمة التحرير، سواء ضد الدكتاتورية العسكرية او ضد الاستغلال، وتجلى ذلك في منظمات الفلاحين وتحركاتهم، وفي حركات المشردين، وفي بنية الاحزاب الجديدة التي استلهمت مفهوم “جرامش” عن الكتلة التاريخية وبرز في هذا السياق حزب العمال في البرازيل الذي وصل زعماؤه الى السلطة في قلب صراع ضار مع اليمين المدعوم امريكيا.

 

وفي بلدان آسيا وافريقيا تبلورت تجارب خارجة من معطف الفكر التقدمي الذي طبقته الماركسية. وفي اوربا وفي اليونان تحديدا تبلور حزب يساري جديد اتسعت قادعته الاجتماعية لتضم غالبية اصحاب المصلحة في بناء عالم جديد تحت رايات الاشتراكية وهو ما اصاب الامبرياليين بالجنون وقرروا تخريب اليونان بعد انتخاب سيريزا ليتولى الحكم، واخذوا يمارسون الضغط بالديون على البلد الصغير.

 

كذلك برزت الى الوجود حركة نسوية تحررية عارمة يلهمها مفهوم التحرر الذي كانت الماركسية قد عمقتها ومنحته اطارا شاملاً.

 

وفي الولايات المتحدة الامريكية الضلع الرئيسي والاقوى والاغني في الحلف الامبريالي العالمي ولدت مؤخراً حركة “اشتراكيون جدد” وهي مجموعة يسارية تشهد اكبر نمو في بلد كانت الاشتراكية فيه لوقت قريب تعد شتيمة وارتفع عدد المسجلين لدى منظمة الديمقراطيين الاشتراكيين من ستة آلاف الى اكثر من ثلاثين الفا منذ عام 2016، وهي تحقق انتصارات متتالية في الانتخابات المحلية.

 

ويشير مسؤولو المنظمة الى ان معدل اعمار المنتسبين اليها تراجع من 60 الى 35 سنة. وتقول احدى المنظمات للحركة انها اي الحركة ” تهدف لمعالجة جذور المشكلات لا عوارضها واضافت: ان جيلا جديدا مستعد الآن لاعتناق العقيدة الاشتراكية والدفاع عنها علنا.

 

وتقول استاذة جامعية من اعضاء الحركة: ان نمو الديمقراطية الاشتراكية في امريكا يثبت ان الناخبين المعارضين لترامب لا يجدون هدفهم في الحزب الديمقراطي بالضرورة، واضافت: هناك شريحة في المجتمع الامريكي تشعر بان الاحزاب السياسية لا تستجيب لمخاوفها، والديمقراطيون الاشتراكيون قالوا: “لدينا حل لكم” وهم سوف يستفيدون من ان السمعة السيئة للاشتراكية بدأت تزول، والناس لم يعودوا يربطون بين التشراكية والحكم الدكتاتوري في الاتحاد السوفيتي والصين”. وسوف يبين المستقبل ان كانت الاشتراكية هذه الحركة هي صدى للاشتراكية الديمقراطية الاوربية التي تحالفت مع الامبريالية والاحتكارات ام لا؟

وتعيد هذه الحركة الى الاذهان حركة “إحتلوا” حين ذهب مئات الآلاف من المواطنين الى وول ستريت مركز المال والاعمال في نيويورك وفضحوا خلال بضعة ايام طبيعة الانقسام الطبقي الفادح في الولايات المتحدة الامريكية، وقالوا ان 1بالمائة من الامريكيين يتملكون 90بالمائة من ثروات البلاد.

 

ولا يعني هذا كله ان الطريق الى الاشتراكية قد اصبح ممهدا اكثر من ذي قبل، فما تزال الامبريالية قوية وغنية ولكنه يرد الاعتبار الى الحلم الاشتراكي ويفتح الطريق امام استخلاص امين لدروس التجربة الاولى بانتصاراتها وانكساراتها، يمنح الامل لميار وستمائة مليون جائع على كوكبنا، وهو العار الذي يلاحق دعاة الرأسمالية، فالرأسمالية بدورها في ازمة، وتقدم لهذه الازمة حلولا مؤقتة باستنزاف عرق ملايين البشر وتجويعهم، واخضاع الشعوب بالديون ومع ذلك فانها لم تفلح في تجنب الانحطاط.

 

ويقول المفكر التقدمي الامريكي نعوم تشومسكي “ان انتخاب ترامب يرسخ سير الانسانية بانتظام نحو الهاوية”.

ومع ذلك تتحكم المراكز الامبريالية في كل من التقنيات الجديدة والموارد الطبيعية والتدفقات المالية والاتصالات واخيرا في اسلحة الدمار الشامل وتستمد الرسامالية الاحتكارية من هذه المنظومة فائق قوتها في سعيها للسيطرة على العالم.

فهل للماركسية موقع في هذا العالم الجديد؟ اظن ان التحليل العميق للافكار والرؤى التي يتوالى انبثاقها من اشكال النضال بالغة الثراء ضد القهر والاستغلال على امتداد المعمورة تحمل بصمات الماركسية التي تخلصت – في الممارسة والتجارب المريرة – من كل ما شاع فيها.

 

وفي ختام تقديمه لمعجم الماركسية النقدي كتب المفكر الفرنسي الراحل جورج لابيكا: “ان الماركسيين لم ينتهوا، كما ان الماركسية لم تمت حقيقة، بل على العكس من ذلك فان حقلا موضوعيا ضخما وثريا ما زال قائما، وهو حقل يهم الجميع، واصبح ميدانا للعموم، نتمنى ان ينتهي الامر بالعملاء ورجال السياسة الى ان يتصالحوا معه كما اراد ذلك ماركس وكما اراد افلاطون من قبله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مداخلة في ندوة الذكرى المائة لثورة اكتوبر الاشتراكية التي اقيمت في العاصمة الاردنية عمان، يومي 18- 19 /11/ 2017

المصدر: المواطن نت/ افق – فريدة النقاش

الوسوم
إغلاق