كتابات
الدار التي شهدت مولد النور
ريبون / كتابات
🖊د. أحمد باحارثة
ولد الهدى مع سقوط الندى في فجر يوم غير عادي، في دار انطلق منها نور بحصول الميلاد، نور حقيقي أضاء أرجاء الدار، وتمدد إلى ما حولها من دور في شعب بني هاشم، آذن بتغيير شامل في مجرى حياة البشرية، بعد أن صار المولود رحمة للعالمين، فما شأن تلك الدار وقد تحولت بها الأغيار من دار تداولتها أيادي المتملكين، وحركة الساكنين، حتى استقرت جزءا من المسجد الحرام.
هذه الدار هي من أملاك هاشم بن عبد مناف أحد سادات قريش في مكة، وكانت فسيحة في مساحتها، وتقع تلك الدار في شعب بني هاشم، وهو يقع بين جبل أبي قبيس عن يساره، وجبل الخندمة عن يمينه، فيصب في بطحاء مكة، وهو منازل بني هاشم قبل النبوة، ثم إن تلك الدار قد آلت وراثة لابنه عبد المطلب بن هاشم جد الرسول صلى الله عليه وآله سلم، فقسمها بين أبنائه، فمن ثم صار للنبي قسم أبيه عبد الله بالوراثة، وفيها كان مولده.
ولما هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام سارع اثنان من بني عمه أبي طالب، كانا على الكفر، بالاستيلاء على قسمه من الدار، وهما عقيل وطالب، وضماه إلى ما ورثاه من أبيهما، باعتبار ترك النبي صلى الله عليه وسلم لقسمه منها بالهجرة، وحدث أن فُقد طالب هذا وجُهل مصيره بعد غزوة بدر، فباع عقيل دار أبيه، مكتفيا بالسكن في دار الرسول.
كما أجاز عقيل لنفسه الاستيلاء على دار أخرى للنبي، بوصفها دار ابن عمه، تلك هي الدار التي ورثها الرسول مع بناته من زوجته الأولى خديجة رضي الله تعالى عنها، ثم باع عقيل هذه الدار التي هي دار خديجة، والتي كان يقال لها أيضًا دار مولد فاطمة عليها السلام، واشتهرت بمولد فاطمة لشرفها، وإلا ففيها مولد بقية إخوتها من خديجة، وقد قام معاوية بن أبي سفيان أثناء خلافته بشرائها ممن اشتراها من عقيل، وجعلها مسجدًا أدخل لاحقًا في توسعة المسجد الحرام.
وفي السنة السادسة للهجرة أعلن عقيل بن أبي طالب إسلامه أثناء صلح الحديبية، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسكنيه اللذين بحوزته، سواء مسكنه الذي ولد فيه، أو مسكنه الذي ابتنى فيه بخديجة بنت خويلد، وولد فيه ولده جميعا، بل وهب الرسول داره لابن عمه عقيل، ولم يخرجه منها، ثم انتقلت إلى ملك أولاده إلى أن باعوها لاحقًا.
ثم فتحت مكة المكرمة وغمرها نور الإسلام، وفي السنة العاشرة عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على الحج، فصار الصحابة يتساءلون بينهم: أين سيقيم الرسول في مكة، فعن أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، أين تنزل غدا؟ وذلك في حجته حين دنونا من مكة، فقال: «وهل ترك لنا عقيل منزلا»، ثم نصب له مخيمًا في منطقة الحجون مكث فيها مدة انقضاء مشاعر الحج، ثم عاد لتوه إلى المدينة.
وهكذا بقيت الدار التي ولد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم في ملك ابن عمه عَقيل بن أبي طالب، ولم تزل بيد أولاده بعد وفاته إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف الثقفي بمائة ألف دينار، وهو أخو الحجاج بن يوسف الثقفي، وكانت مجاورة لبيته فأدخل الدار في بيته، وسماها البيضاء لأنها بنيت بالجص ثم طليت به، وهو النورة، فكانت كلها بيضاء، وصارت تعرف عند عامة الناس بدار ابن يوسف.
و لما حجت الخيزران أم الخليفتين العباسيين موسى الهادي وهارون الرشيد أخرجت دار المولد من بيت محمد بن يوسف، ثم ضمت إليها الزقاق المجاور، وجعلتها مسجدا، ثم جددت زبيدة زوجة الرشيد ذلك المسجد الذي بنته الخيزران، فنسب لكل منهما.
قَالَ الْأَزْرَقِيّ (مؤرخ مكة): “كان نَاس يسكنون ذَلِك الْبَيْت قبل أَن تنزعه الخيزران من الدَّار، ثمَّ انتقلوا عَنهُ حِين جعل مَسْجِدا، قَالُوا: لَا وَالله مَا أَصَابَنَا فِيهِ جَائِحَة وَلَا حَاجَة، فأخرجنا مِنْهُ فَاشْتَدَّ الزَّمَان علينا”.
وَمِمَّنْ أسهم في تعمير دار المولد وهي مسجد الخليفة النَّاصِر العباسي سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة، ثمَّ المظفر الرسولي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة، وهو أحد ملوك الدولة الرسولية في اليمن التي امتد حكمها آنذاك إلى بلاد الحرمين الشريفين، وأعلن عاصمته مدينة تعز حاضرة للخلافة عقب سقوط بغداد، وقبل نقلها إلى القاهرة، ثمَّ حفيده الْملك الْمُجَاهِد عَليّ بن الْمُؤَيد سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة، وَبعد ذَلِك مرّات عديدة.
وموضع الدار التي ولد فيه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كان يسمى بطحاء مكة، وهي مسيل في آخر شعب بني هاشم، وهو الشعب الذي لجأ إليه الهاشميون عندما تحالفت قريش ضدهم، وعرف فيما بعد بشعب أبي طالب، ثم صار يعرف بشعب علي، وأصبحت تلك البطحاء اليوم شارعًا معبدًا بجوار المسجد الحرام، ونشأ فيه سوق مَعْرُوف عِنْد أهل مَكَّة بسوق اللَّيْل.
ثم إن المسجد، الذي بنته الخيزران في موقع دار المولد، قد تم هدمه أخيرا بحجة تهافت الناس عليه و تبركهم به، وبنيت في موقعه عمارة حديثة سنة 1370هـ، وجعلت مقراً لمكتبة عامة لمكة المكرمة يرتادها طلبة العلم، تكفل ببنائها محسن يدعى الشيخ عباس قطان، من ماله الخاص، ثم سلمها للحكومة السعودية لوزارة الإعلام، ثم سلمتها وزارة الإعلام إلى وزارة الأوقاف والحج، ثم ضمت للتوسعة الجديدة للحرم الشريف.
وهكذا كما ضُمت دار مماته بالمدينة المنورة مبكرا إلى المسجد النبوي، يحيط من حولها العباد، ويقف عندها الزوار، فكذلك مؤخرا أصبحت دار مولده بمكة المكرمة جزءا من المسجد الحرام، وحطت فيه رحالها، وحسن إليه مآلها، وبذلك انتقلت تلك الدار الكريمة من نور الولادة إلى أنوار العبادة.