منوعات
كانت ترى من على بُعد 3 أيام.. «زرقاء اليمامة» الفتاة التي تغنَّى بها شعراء العرب
ريبون / منوعات
ربما سمعتَ من قبل المثل العربيّ القائل «أبصر من زرقاء اليمامة»، وهو المثل الذي يقال عادةً ليعبِّر عن حدّة وقوة بصر شخصٍ ما، فيُقال إنه يُبصر أفضلَ مما كانت تُبصر «زرقاءُ اليمامة»، فمَن هي زرقاء اليمامة هذه، التي يَضرب بها العربُ المثلَ منذ مئات السنين.
يحكي لنا الشاعر الأندلسيُّ ابن عبد ربه في كتابه الشهير «العقد الفريد«، قصَّتها، فهي امرأةٌ كانت في منطقة «اليمامة» في شبه الجزيرة العربية، في المملكة العربية السعودية حالياً، كانت تُبصر الشعرةَ البيضاء في اللبن، وتستطيع أن ترى الراكب على مسافة ثلاثة أيام، أي كانت تراه وهو على مسافة تبعد نحو ثلاثة أيام من السير عن المكان الذي هي فيه.
مكَّنتها حدّةُ نظرها أن تُحذِّر قومَها من الجيوش إذا نوت غزوهم قبلها بمدّة كافية، فكانت تراهم قبل أن يصلوا إليهم بمسافة بعيدة، وهذا التحذير المُبكِّر يساعد قومَها في الاستعداد لمُلاقاة العدو.
عندما علم أعداء قومها بحدَّة نظرها احتالوا عليها بطريقةٍ عجيبةٍ ليتمكّنوا من غزو قومها بشكلٍ مُفاجئ، فقطّعوا شجراً وأمسكوه بأيديهم، وساروا به، فأصبح فوق رؤوسهم.
رأت زرقاء اليمامة أنَّ الشّجر يتحرَّك على مسافةٍ بعيدة من قومها، فأخبرتهم بذلك قائلة «إنِّي أرى الشجر قد أقبل إليكم»، وبالطبع سَخِرَ منها قومُها، واتَّهموها بالخَرَف، وبأن حدّة بصرها المعتادة قد ذهبت، وأن ما تخبرهم به هو محض خيال، ومجرّد تخريف لا حقيقة وراءه.
لكنهم فوجئوا هذه المرة بالعدو يغزوهم من خلال هذه الخدعة.
أمّا أبوالقاسم الزمخشريّ، فيُخبرُنا في كتابه «المستقصي في أمثال العرب«، أنَّ زرقاء اليمامة هي مِن بنات لقمان بن عاد، وأنّ اسمها «اليمامة»، وسُمِّيت المنطقة على اسمها، ويخبرنا بأنّ المنطقة قبل تسميتها باسم اليمامة كان اسمها «جو»، ويقال أيضاً إنّ الفتاة اسمها «عنز»، ولأنّ لديها عينين زرقاوين حادّتي النّظر فقد سمِّيت زرقاءُ اليمامة.
كبار الشعراء يضربون الأمثلة بزرقاء اليمامة
وقد أنشد المُتنبي قائلاً: «وأبصرَ من زرقاءِ جَوٍّ لأنّني.. متى نَظَرَتْ عَينايَ ساواهما عِلمي»، وقيل في تفسير هذا البيت إنّه يمتدح نفسه بأنه أكثر قدرة على الإبصار من زرقاء جوّ (أي زرقاء اليمامة)، لأنَّ ما يصل إليه بخبرته وعلمه أسبق مما تراه عيناه.
أمّا عبدالقادر البغدادي فيخبرنا في كتابه «خزانة الأدب«، عن زرقاء اليمامة، بأنّ النابغة الذبياني في مُعلقته حينما أراد أن يضرب مثلاً في الحِكمة والنّظر الثاقب الصائب الدقيق، ضرب هذا المثل بموقف حدث مع زرقاء اليمامة فقال:
«واحْــكــمْ كَــحُــكمِ فَتاة الحيِّ إذْ نَظَــرتْ.. إلـــى حَـــمــــامِ شِــــراعٍ وَارِدِ الــــثَّــــمَـــدِ.. يَــحــفُّــهُ جــانــبــاً نــيــقٍ وتُــتْــبِــعُــــهُ.. مِـثـــلَ الـــزُّجـــاجَــةِ لــم تَـكْـحلْ من الرَّمَــدِ.. قــالــتْ ألا لَـيْـتَـمـا هــذا الـحَــمــامُ لــنـا.. إلــــى حَــــمـــامَــتِــنــا ونِــصـــفُــهُ فَـــقَــــدِ.. فَحــسَّــبُــوهُ فــألْــفَــوْهُ كــمــا حَــسَــبَـتْ.. تِـــسـعـاً وتِـــسـعـيـنَ لـم تَـنـقُـصْ ولــم تَــزِدِ.. فَـكـمَّــلــتْ مـائــةً فـيــهـا حَـمــامــتُــهــا.. وأسْـــرَعـتْ حِـسْــبـةً فـي ذلــــكَ الــــعَــــدَدِ».
وهو الموقف الذي سرده لنا أيضاً سيبويه في كتابه «الكتاب«، فقال إنّ زرقاء اليمامة رأت عدداً من الحمام وهو يُسرع لشُرب الماء، فقدَّرت عدده، وكان ما قدَّرته صحيحاً، فضرب بها النابغة الذبياني المثل في الحكمة والقدرة على تمييز الصواب.
الغزو الأخير الذي قُتلت فيه زرقاء اليمامة
يخبرنا عبدالقادر البغدادي أيضاً بتفاصيل أكثر عن مقتل زرقاء اليمامة. كانت زرقاء من جديس، وهم قومٌ من العرب البائدة، التي انقرضت ولا تكاد تُذكر إلا مع ذكر قبيلة طسم، وهي قبيلة من العرب أيضاً، كانت القبيلتان تسكنان اليمامة، ويُقال إن جديس كانت تابعة لطسم.
قَتلت جديس رجلاً من طسم، فجهّز حسّان بن تُبع جيشاً ليذهب به إلى جديس، وعندما علم حسّان بشأن قدرة زرقاء اليمامة على رؤيتهم، طلب من أصحابه أن يمسك كل واحدٍ منهم بشجرة ويسير بها، وهو ما أبصرته بالفعل زرقاء اليمامة، وحدَّثت به قومها، لكنهم لم يأخذوا الأمر بجدية، وسخروا منها، كما سبق أن ذكرنا، فلم يستعدُّوا لمُلاقاة طسم الذين أغاروا عليهم بشكلٍ مُفاجئ وقتلوا منهم مَن قتلوا، وكان من بين من تم قتلهم زرقاء اليمامة.
ويُقال إنّهم بعد مقتلها قاموا بقلع عينيها، فسالت من عروق عينيها مادّة سوداء، قيل إنّ السبب وراءها هو اكتحالها منذ صغرها بحجر الأثمد، وقيل إنها من أوائل العرب الذين اكتحلوا بهذا الحجر، ووفقاً لكتاب «الأحجار الكريمة» لمروان أبوالنعيم، فإنَّ حجر الأثمد هو حجر يُكتحل به، ويدخل في تركيبه الرصاص، وهو يساعد في علاج أمراض العين، ولا نستطيع أن نحدِّد بالضبط صحّة هذه الرواية.