كتابات

السعودية والحقائق البديلة

ريبون / كتابات

كتب / أحمد عبداللاه

عجز المراقبون عن استجلاء تفاصيل الزاوية الميتة في نطاق رؤية القيادة السعودية التي يُستدل على وجودها من خلال الإرتباك الواضح في الأداء. هل تعود إلى إدارة الحكم و طبيعة الحوكمة التقليدية المعقدة؟ أم قلة حيلة إزاء متطلبات توازن المواقف بين المواجهات والمعالجات والمقايضات في سلة الأحداث المتداخلة والمركبة في (هذا) الشرق الأوسط؟ أم أن هناك بالفعل يد لزراع الفشل تعمل على اضعاف الدولة. عليك إذن أيها القاري أن تدخر مساحة ذهنية متحفزة للتعاطي مع ثورة الأسئلة حول أحداث صغيرة وكبيرة بالغة الدلالة، لتبحث في الأسباب الممكنة وراء المفارقات والإخفاقات في سياسات المملكة السعودية و تستجلي ما يشاع عن دور القوى المعطلة داخل النظام وعن خلايا موزعة على منحدرات وقيعان الدولة العميقة.. أينما نثرت ملحها يثور جرح سعودي. فما هي مصائر “النهضة” بعد سنوات على بدايات التهيئة؟ وماذا عن “العاصفة” بعد خمس ونيف؟ وكيف عجز الإعلام عن مواكبة المتغيرات والأحداث الكبرى؟ حملات التبشير بعصر الرينيسانس في جزيرة العرب بمقاييس ما بعد عقود الصحوة (الحراك الدعوي واللحى المؤدلجة)، تخثرت معنوياً في أفق التوقعات الغربية إثر دراما خاشقجي التي تركت ندوباً عميقة في (وجه) الإدارة السعودية الشابة. خاصة (وكأن) حبكتها، كما تبدو الآن للمراقبين، هدفت في الأساس إلى إشهار الفضيحة ليتابع العالم من خلال عروض الفضائيات الكبرى تركيب المشاهد المثيرة التي وضعها المونتير وأحالها إلى دوامة إعلامية قابلة للحياة في كل موسم، مذكراً بدعاء “وإذا شيك فلا انتقش” حتى يصبح استغلالها بصورة متجددة في أسواق المبادلة أمراً وارداً. لقد انكمشت على إثرها مساحة الثقة والترحيب لدى الطبقات السياسية في الغرب بتوجهات القيادة الشابة، وتغيرت مقاربات أحزابها الديمقراطية تجاه مشاريع النهضة والتنوير التي دشنها ولي العهد و لعبت وما تزال وسائل الإعلام والميديا الليبرالية الغربية دوراً قبيحاً في توفير منصة كافية للبروباجندا التابعة لتنظيم الإخوان. فمن هو الضحية القتيل أم القاتل؟ وإن اتّبعت لياقتك المعتادة في ارتياد الشك عزيزي القارئ عليك أن تسأل مجدداً: من المستفيد ومن زرع الفكرة ومن نصب الفخاخ؟ لم تتعود الحكومة السعودية على الحفر عميقاً بعد كل حدث لتكشف (الرسم) في قيعان الدولة العميقة وجهاز الاستخبارات لهذا تمر المصايب بعجالة الهارب من مواجهة المسببات، دون مرافعات أو مراجعات جادة. وفي ظل غياب كامل للنهج الإعلامي الاحترافي والعجز في امتصاص صدمات الإعلام المعادي، واجهت المملكة تلك الأزمة من خلال “الاعترافات الإنكارية” العامة في بادئ الأمر.. ليس (بالضبط) على طريقة اعترافات المصري القديم أمام مجمع الآلهة بهدف العبور الى الخلود، وإنما من باب الدفاع امام المجمع الإعلامي العالمي الذي توحد في لحظة تاريخية حرجة وأطلق عواصف سقت الفضاء جحيماً من الموجات الراديوية (الناشفة). ربما كانت هناك حاجة الى شراء الوقت حتى تجد السلطات تفسير مقبول للعالم وتسكين الحالة مؤقتاً “وفق ترتيبات محددة”.. لكن المملكة، وبعد انقضاء الذروة، لم تجر عملية جراحية ضرورية لجهاز الاستخبارات الا وفق حاجة العالم وليس وفق حاجتها هي. كما أنها لم تجر مراجعات لأداء الإعلام الذي لم يتجاوز في تلك المِحنة صياح المعددات في حفل عزاء كبير و (مودرن). وفي مشهدية أوسع وأعمق، ظنت المملكة أنها على موعد مع عصر القوة بعد أن تستوفي “عاصفة الحزم” أهدافها وتخرج منتصرة على خصومها الإقليميين ومهابة عالمياً، إلا انه تلاشى هو الآخر حين تجمدت حيل المملكة في دائرة داكنة. فبدل من دراسة الفرص الإستراتيجية في سنة أولى حرب، وتوظيف تأثيرها على الساحة الدولية لفرض خارطة طريق نحو تسويات موضوعية مستدامة في اليمن المعصوف شمالاً وجنوباً تحفظ التوازن وتحفظ الدماء وتوفر استقرار دائم… لم يتجل خيال السعودية في مواجهة التحدّيات والتعقيدات إلا في دعم إخوان اليمن وتقديم تنازلات في سياق علاقاتها المعقدة مع حزب الاصلاح وشيوخه وتنظيماته حتى على حساب حلفائها الحقيقيين. فحافظت على “شرعية” متجمدة مخبوءة في خزانة المشروع الإخواني حتى بعد أن نضبت سياسياً وأخلاقياً وتضاءلت وانكمشت وانحصر وجودها داخل ما يشبه “جمهورية عبد الودود” في دراما غوار الطوشة. فهل تحتاج السعودية أن (يزعق) الإخوان المسلمون في أذنيها بأعلى صوتهم وأن يعترفوا لها بأن أولوياتهم في اليمن وفي كل مكان هي دولة الخلافة وقبل ذلك إفشال المملكة وإسقاطها؟ أم أنها اتبعت فرقة النصّاح بأن حزب الاصلاح لا يتبع (بالضبط) تنظيم الإخوان وإنما هو مجمع من شرائح قبلية وتوليفات مدنية غير متجانسة؟ إن صح ذلك فهي كوميديا غبراء! ومرة اخرى يقدم الاعلام السعودي أسوأ نموذج عرفته دولة تخوض معارك كبرى، حيث وجد الاعلاميون السعوديون على اختلاف ولاءاتهم مساحة رمادية في سياسات النظام يشتبكون فيها ويحاول كل طرف منهم أن يقشّر ما يستمزجه من فقه التشوش السائد، فكارثة الإعلام وإخفاقاته متلازمة لإخفاقات السلوك السياسي العام جراء التراخي إزاء مواجهة المخاطر الحقيقية بحزم والانتباه لعامل الزمن.. لهذا يصلون في كل مرة بعد انقضاء المولد. إن ما يعزز كثير من مخاوف حلفاء المملكة هي حالة إنكار الواقع داخل دائرة الحكم.. ما يجعل صناع القرار يرون في كل مرة “حقيقة بديلة” لفرط ما يقدمه المقربون المعتقون ورجالات القصر والأدوات في الدولة العميقة من صور مختلفة ومضللة. لهذا يتعين على (التابعين المخلصين) الحيطة والحذر، لأن من يعيش حالة اليقين بأن الإدارة السعودية تمتلك وسائل وأهداف تفوق إدراك المتابعين فإنه لا يختلف عن أولئك الذين يعتقدون بأن وكالة ناسا الامريكية تتجسس على الملائكة!
إغلاق