كتابات
جائحة كورونا وأزمة النظام الرأسمالي المعولم
ريبون / كتابات
كتب / عيبان محمد السامعي
جاءت جائحة كورونا (COVID-19) التي اكتسحت بسرعة فائقة دول العالم وحصدت مئات الآلاف من البشر؛ لتطرح مرةً أخرى وعلى نحو أكثر وضوحاً وشمولاً أزمة عالمنا المعاصر, إذ لم يكن يتوقع أحد أن تعود مشاهد الأوبئة الفتاكة إلى الظهور مرة أخرى بعد أن ظنّ الجميع أنّ تلك المشاهد قد ولّت وإلى غيرِ رجعة بفضل التقدم العلمي الهائل الذي وصلت إليه البشرية.
نُسارع إلى القول بأنّ ظهور جائحة كورونا وانتشارها على ذلك النحو المخيف ليس ناجماً عن عقاب إلهي كما يحلو للاهوتيين أنْ يفسروا الظاهرة؛ بل تعود إلى أسباب أخرى كامنة في بنيّة النظام الرأسمالي المعولم وميكانزمات عمله وعقابيل التجريف الجهنمي للطبيعة واختلال التوازن الايكولوجي (Ecological imbalance) في أرجاء المعمورة.
فقد باتت ظواهر مثل: التلوث البيئي (Environmental pollution) وثقب طبقة الأوزون (Ozone whole), وهي الطبقة التي تحمي الأرض من النسبة الكبرى من الاشعة فوق البنفسجية, بالإضافة إلى الاحتباس الحراري Global Warming) ) الناجم عن انبعاث غازات: كلوروفلوروكربون (CFC) وأول أكسيد الكربون (CO) وثاني أكسيد الكربون (CO2) وأكاسيد النيتروجين (Nox) والميثان (CH4) وغيرها؛ باتت مخاطر عالمية الطابع وفقاً لعالم الاجتماع الألماني أولريش بيك (1944 – 2015), الذي يرى أننا نعيش في مجتمع المخاطر العالمي (World Risk Society) فلم تعد المخاطر و الاخطار شأناَ قومياً بل تخطّت الحدود القومية لتتدفق في مختلف الاتجاهات, إنها المخاطر الطيَّارة؛ حيث تطير هذه المخاطر من مكان إلى آخر دون القدرة على إخضاعها أو التحكم فيها, ومن شأنها أن تضع مستقبل الجنس البشري ومصير الكوكب أمام خطر الفناء.[1]
تُؤدي جملة هذه المخاطر إلى نتائج كارثية كتغيُّر المناخ, وارتفاع درجة حرارة الأرض, واكتساح التصحُّر والجفاف المناطق الزراعية, والتهام الحرائق الغابات المَطيرة, وذوبان الجليد في القطب الشمالي, واجتياح الفيضانات العديد من المدن الساحلية في العالم, وارتفاع ملوحة مياه البحر مما يؤدي إلى إبادة الأحياء البحرية, ناهيك عن انقراض أنواع كثيرة من الحيوانات والطيور والنباتات. كل ذلك يُفضي إلى حدوث المجاعات, وتغيُّر نمط العلاقة بين الإنسان والحيوان, وانتشار الأمراض والأوبئة مثل: أمراض الجهاز التنفسي والربو والملاريا وحمّى الضنك والتيفوئيد والكوليرا, وانتشار فيروسات معدية مثل: فيروس السارس (SARS) ”المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة“2002, وأنفلونزا الطيور (HPAI) 2003, وانفلونزا الخنازير (H1N1 ) 2009, وانفلونزا الإبل (MERS) ”متلازمة الشرق الأوسط التنفسية“ 2015, وأخيراً وليس آخراً وباء كورونا (COVID-19) 2020.
(2)
إنّ النظام الرأسمالي في نسخته العولمية يُدمّر الأرض, يدفعه في ذلك مَانيا / هوس الربح, فالربح (Profit) في عقيدة الشركات الرأسمالية الاحتكارية الكبرى مُقدَّم على الشعوب وعلى مصير الكوكب كما يقول الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي (1928 – ), فهو أحد الأقانيم النيوليبرالية إلى جوار أَقْنُوم المِلكية الخاصة (Property) وأقنوم حرية السوق المنفلتة (Free market) وأقنوم الخصخصة (privatization).
في ظل هذه الصيغة لا يكون هدف النمو الاقتصادي (Economic growth) من أجل إشباع حاجات البشر من السلع والخدمات ناهيك ــ طبعاً ــ عن تحقيق التقدم الاجتماعي, بل من أجل مراكمة المزيد من الأرباح لصالح الأوليغارشية الاحتكارية التي تُمسك بمقاليد النظام العالمي.
لذلك يُمسي النمو إله مجتمعاتنا الخفي وفقاً للفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي (1913 – 2012). “وهذا الإله الخفي هو إله قاسٍ, إنّه يتطلب ضحايا بشرية. واليوم, يُثقل علينا لون من القلق والضيق لم يثقل قط على البشر طوال تاريخهم هو قلق بقاء الكرة الأرضية وبقاء الذين يسكنونها.”
يضيف جارودي : “وما تسمى سياسة النمو هي سياسة غايتها تشغيل الآلة, حتى ولو كانت آلة بلا فائدة, أو ضارة, أو مميتة.”[2]
تدور عجلة النمو ــ إذن ــ بسرعات قياسية وبدون كوابح, فلا تتوقف البتّة, ليس من أجل صالح البشرية بل من أجل مراكمة الربح في أيدي الأقلية المُستغِلة.
في كتابٍ له بعنوان: “عالم منفلت: كيف تشكّل العولمة حياتنا”, يصف عالم الاجتماع الانجليزي أنتوني جيدنز (1938 – ) عالمنا المعاصر بأنّه عالم جامح ومنطلق بسرعة هائلة فيما نحن نلهث خلفه, وأنّ الحركة فيه تموج بكل الاتجاهات ومن دون أن تخضع لسيطرة البشر بشكل كامل.
ينبّه الفيلسوف الاستثنائي كارل ماركس (1883– 1818) إلى أنّه يجب ألا نفهم الإنتاج الرأسمالي وكأنّ هدفه الأساسي إنتاج السلع للاستهلاك، ولا إنتاج أدوات التمتّع للرأسماليين، بل هدف الرأسمالية الوحيد هو استخراج فائض القيمة، وبالتالي الاستمرار في النمو وتوسيع حدود عالمها.
اكتشاف ماركس لقانون القيمة الزائدة (Surplus value) كان بمثابة كسر الشيفرة المعقدة في فهم الرأسمالية وبنيتها الاستغلالية, فالقيمة الزائدة تعني “القيمة التي يخلقها عمل العمال الأجراء ويستأثر بها الرأسمالي بلا مقابل.”[3]
لذلك تصبح القيمة الزائدة مصدر ربح الرأسماليين وفي نفس الوقت مصدر استغلال العمال واستلابهم. فالعمال يصنعون السلع بجهدهم الخالص, ومع ذلك لا تعود منافعها أو ملكيتها لهم بل لمالك وسائل الانتاج. وعليه يصبح جهدهم ذاته سلعة تُؤخذ منهم وتُباع مثله مثل الأشياء التي ينتجونها.
إنّ الرأسمال ــ والكلام لماركس ــ هو بمثابة غُول لا يعيش ولا ينتعش إلا حين يمتص الدَّم والعَرق من العامل المأجور, لذلك : “العامل يزداد فقراً كلما زادت الثروة التي ينتجها, وكلما زاد انتاجه قوةً ودرجة, والعامل يصبح سلعة أكثر رخصاً كلما زاد عدد السلع التي يخلقها, فمع القيمة المتزايدة لعالم الأشياء ينطلق في تناسب عكسي انخفاض قيمة عالم البشر. والعامل لا ينتج سلعاً فحسب, وإنما هو ينتج ذاته وينتج العامل كسلعة, وهو يفعل ذلك بنفس النسبة التي ينتج بها السلع عموماً.”[4]
إنّها حالة التشيؤ (Reification) كما يوضح الفيلسوف المجري جورج لوكاتش (1885-1971) أي تحوُّل الإنسان العامل إلى شيء من الأشياء, وتُقاس قيمة العامل بما ينتجه من سلع, عندها يشعر العامل بالاغتراب (Alienation) وفقدان الذات.
(3)
إذا كانت الحداثة تعني نزع القداسة عن العالم واستبعاد التصورات اللاهوتية والميتافيزيقية لصالح اعتماد النظرة العلمية للوجود, فإنّ النيوليبرالية العولمية قد أعادت منطق القداسة إلى الصدارة, وأصبح جني المال عملاً مقدساً وأنّ “للسوق سحراً” كما زعم الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان (1911- 2004) ومعه حكاّم “وول ستريت” وأشياعهم حول الكوكب.
في ظل النيوليبرالية العولمية هذه لم يعد المال وسيلةً للتبادل، كما كان طيلة تاريخ البشرية، بل أمسى قيمةً غائية مطلقة. وتبعاً لذلك حدث تغيُّر جوهري في نمط الاقتصاد العالمي.
ففي مُستهل سبعينات القرن انحسر دور الاقتصاد الحقيقي/ الانتاجي (The real economy) القائم على التصنيع لصالح تعزز دور اقتصاد الفقاعات/ الريعي (The Bubble Economy) القائم على المُضاربات المحمومة والأنشطة العقارية والإقراض غير المنضبط. والفرق شاسع بين النمطين, فالاقتصاد الانتاجي تشارك فيه شريحة واسعة من العمال والمنتجين رغم أنه لا يخلو من الطابع الاستغلالي, بينما اقتصاد الفقاعات تقتصر المشاركة فيه على الطُغم المالية فقط.
أفضى هذا التحول إلى أزمات عميقة في بُنيّة النظام الرأسمالي, لعل أبرزها الأزمة المالية العالمية عام 2008 التي سبّبت إفلاس أعتى المؤسسات المالية والبنكية وانهيار البورصات في العالم.
والواقع أنّ الأزمات مُلازمة للرأسمالية منذ نُشوئها بسبب بُنيّتها التناقضية الأساسية الكامنة في المِلكية الخاصة وطبيعة الانتاج الاجتماعي, وما ينتج عنها من فوارق هائلة بين البشر. لقد أخذت الثروة تتمركز بشكل متصاعد بأيدي أقلية محدودة للغاية, بينما الغالبية الكاسحة من البشر تعاني من الفقر والبطالة وسوء الخدمات والمجاعات والحروب.
تفيد التقارير الدولية بأنّ ثروة 1% من أغنى أثرياء العالم تفوق ثروات بقية العالم مجتمعة، ما يعني أن 1% يمتلكون أكثر مما يمتلكه99% من سكان العالم!
لقد تمكنت أقلية اجتماعية متميزة من تجميع مقادير هائلة من الثروة على حساب الأغلبية من السكان ــ ويتغذى هذا النظام المالي الدولي الجديد على الفقر الإنساني وتدمير البيئة الطبيعية, ويولّد الفصل الاجتماعي, ويشجّع العنصرية والشِقاق العرقي, ويقوّض حقوق المرأة, وكثيراً ما يدفع البلدان إلى مواجهات مدمرة بين القوميات.[5]
قلنا إنّ الأزمات سمة بنيوية ملازمة للنظام الرأسمالي, والمتتبع للتاريخ سيلحظ الطبيعة الدورية لهذه الأزمات ابتداءً من أزمة 1873 وأزمة 1929 “أزمة الكساد الكبير” وأزمة 1971 “انهيار نظام بريتون وودز” وأزمة 1979 وأزمة 1984 وأزمة 1989 وأزمة 1997وأزمة 2001 وأزمة 2008 وأزمة 2020 وغيرها.
هذه الأزمات ليست مجرد أزمات مُفردة أو اهتزازات عارضة في التاريخ بل هي أزمة بنيوية متصلة, وبالتالي لا ينبغي الوقوف عند كل أزمة على نحو منفرد، بل وفق منظور كلي وفقاً لعالم الاقتصاد د.سمير أمين (1931- 2018).
في كل مرة تهرب الرأسمالية الاحتكارية من أزماتها إلى تصدير هذه الأزمات وتفجير الحروب حول العالم بهدف نهب ثروات الشعوب لتعويض خسائرها.
يستخدم النظام الرأسمالي المعولم الأزمات والمنازعات والحروب في العالم استخداماً سياسياً لتحقيق وظيفتين اثنتين مترابطتين تعود عليه أرباحاً صافية:[6]
أولاهما: وظيفة مالية ربحية مُجزية، مكمنها في استفادة المجمّعات الصناعية الحربية الكبرى في العالم من مثل هذه المنازعات والحروب لبيع منتوجاتها من السلاح لفريق من المتقاتلين، وأحياناً للفريقين معاً، قصد تنشيط الدورة الإنتاجية والاقتصادية فيها، وتنمية قطاع صناعة الأسلحة بوصفه واحداً من أفعل القطاعات تطويراً للصناعات، وتعظيم الفوائد، ومراكمة الثروة، وحل مشكلات الركود الاقتصادي التي تلّم بالنظام الرأسمالي.
وثانيهما: وظيفة سياسية واستراتيجية مكمنها في استثمار الدول الكبرى المنازعات والحروب في العالم، وخاصة في بلدان الجنوب وبينها، لمد نفوذها إلى المناطق التي تجري فيها عن طريق تقديم الدعم والمساعدات، لهذا الفريق أو ذاك، وإرسال الخبراء العسكريين للتدريب على السلاح المورد، واستحصال تسهيلات عسكرية (قواعد جوية وبحرية)، وإبرام معاهدات أمنية واتفاقات اقتصادية تكرس التبعية للبلدان الرأسمالية.
(4)
تتكئ النيوليبرالية على ميكانيزمات أخرى لتكريس تبعية البلدان النامية لها؛ من خلال المؤسسات الدولية الثلاث: البنك الدولي (WB)، وصندوق النقد الدولي (IMF), ومنظمة التجارة العالمية (WTO), فالمؤسستان الأوليتان تختصان بإعادة هندسة اقتصادات الدول عبر ما يسمى برامج التكيف الهيكلي والتثبيت الاقتصادي, بينما تتولى المؤسسة الثالثة بتحرير التجارة والخدمات بحيث تنتقل السلع والرساميل دون حواجز جمركية أو شروط تقف عقبة أمام هيمنة الشركات المتعدية الجنسية (MNC), في الوقت الذي تضع فيه الدول الغنية مصدات عديدة أمام تنقُّل قوة العمل وتمنع الهجرة الوافدة إليها.
تؤدي برامج التكيف الهيكلي والتثبيت الاقتصادي إلى نوع من “الإبادة الاقتصادية” للشعوب, تتجلى في فرض السوق الحرة, والخصخصة عبر بيع القطاع العام, وإلغاء الدعم عن السلع الغذائية والوقود, وتعويم سعر العملات الوطنية مما يؤدي في أغلب الأحيان إلى انهيارها أمام الدولار الأمريكي, وإلغاء تدخل الدولة في الاقتصاد, وبالتالي حرمان الغالبية الكادحة من المقومات الأساسية للعيش: الغذاء, والماء, والكهرباء, والتعليم, والصحة, والإسكان, والطرق,…إلخ, فضلاً عن ما تسببه هذه البرامج من تدهور الأجور, وتصاعد مؤشرات الفقر والبطالة والتضخم, وظهور المجاعة, وتشديد الأقلية المسيطرة قبضتها على الثروة والسلطة.
في تقديمه لكتاب “صناعة الجوع”, كتب د.فؤاد زكريا (1927- 2010): “في عالمنا هذا أصبحت أقوى مظاهر الاستقطاب بين من يملكون ومن لا يملكون, بين الشعوب التي عاشت على حساب الغير, وتلك التي راحت ضحية استغلال الغير, هي وجود أقلية متخمة يصاب الكثير من أفرادها بالعلل المترتبة على الإفراط في الغذاء, وأكثرية جائعة يتعرض أطفالها, فضلاً عن كبارها, لأبشع أمراض سوء التغذية ونقص النمو, وفي أحيان كثيرة, للمجاعة التي تفضي إلى الموت.
لقد أصبح الغذاء في عالمنا سلاحاً سياسياً مستخدماً ببراعة, وبلا ضمير, في تذويب مقاومة الشعوب الفقيرة وإخضاعها لسياسة الدول التي تمسك بمفاتيح مخازن الغلال في العالم”[7]
تشير التقارير الدولية إلى وجود1200 مليون إنسان حول العالم يعانون من الجوع وأمراض سوء التغذية, وأن 75 مليون إنسان ينضمون إليهم بسبب التضخم وارتفاع أسعار المواد الغذائية, يحدث هذا في ظل وجود الميكنة الحديثة في الزراعة والآلات المتقدمة والتكنولوجيا الواسعة النطاق!
وهناك الكثير من المُفارقات المفزعة التي تكشف عن التناقض بين التطور في الصناعة والميدان العلمي والارتكاس في الجانب الأخلاقي والإنساني, يقول ماركس:
“في زمننا يبدو كأنّ كل شيء منطوٍ على نقيضه. فنحن نرى أن الآلات التي تملك قوة عجيبة لتقصير مدة العمل البشري, ولجعله أوفر ثماراً, إنما تجلب للناس الجوع والإعياء. ومصادر الثروة الجديدة, غير المعروفة حتى الآن, تتحول, بفضل سحر ما غريب وغير مفهوم, إلى مصادر للفقر. وتبدو انتصارات التقنيات كما لو أن الانحطاط الأخلاقي كان ثمنها. (…) لكأن جميع اكتشافاتنا وكل تقدمنا قد أدت إلى هذا الواقع الذي يشير إلى أن القوى المادية تكتسب حياة فكرية, بينما تفقد الحياة البشرية جانبها الفكري, وتنحط إلى مجرد قوة مادية.”
ويُنّبه ماركس إلى أن هذا التناقض لا ينبغي أن يدفعنا إلى اتخاذ موقف عدمي أو مُعادي تجاه التقدم والتخلص من التقنيات المعاصرة, فليست المشكلة في التقنيات والآلات بحد ذاتها, بل بمن يمتلكها ويوظّفها لمصالحه الخاصة, تبعاً لذلك يقول ماركس: “أما نحن, فإننا من جانبنا لا نفقد الرؤية لطبيعة هذه الروح التي تتبدى دائماً في جميع هذه التناقضات. فنحن نعرف أن قوى المجتمع الجديدة لا تحتاج, لكي تفعل فعلها كما يلزم, إلا إلى شيء واحد, ينبغي أن يتملّكه أناس جدد, وهؤلاء الناس الجدد هم العمال.”[8]
(5)
إنّ أصحاب الموقف المتشائم يرون الحياة بأنها ليست خيراً كلها, وما بها من الخير إنما يتحول ــ بالتغير ــ من حالٍ إلى حالٍ أسوأ. ويرتبط هذا الموقف عادة بالصراع الاجتماعي القائم, وبالتصورات الذاتية المنبثقة عن مراحل الانتقال أو عن الكوارث والحروب الكبيرة. فالأشخاص الذين يحسّون أن التطور قد تجاوزهم فكراً وعملاً, ويعجزون عن “التكيّف” مع الأوضاع الجديدة, يشعرون “بالاغتراب” الاجتماعي. وينطبق مثل هذا على الأشخاص الذين يعجزون عن تفهّم قوانين التطور الاجتماعي.
لقد تجلى هذا الموقف التشاؤمي بأشكال وصور مختلفة تجسدت أحياناً في نظريات فلسفية مثل:
- نظرية العود الأبدي أو الدور السرمدي عند شوبنهاور ونيتشه.
- المذهب الوجودي الطافح بالغربة والخوف والتمرد وغياب المعنى.
- المذهب السلفي التقليدي الذي يرى أن الكمال موجود في الخلف وليس في الأمام.[9]
ويتبدى هذا الموقف التشاؤمي ـ أكثر ما يتبدى ـ في الانتاج السينمائي الهوليوودي والدراما الغربية التي تُقدّم نظرة سوادوية كالحة عن مستقبل البشرية, فتقدمه في حالة فناء كلي ناجم عن غزو فضائي أو ظهور كائنات غريبة أو حوادث كونية كبرى.
لا تخلو هذه النزعة الكلبيّة من هدف سياسي يسعى إلى ترسيخ فكرة في الأذهان, مُؤدَّاها: لا بديل عن النظام القائم سوى الطوفان العظيم أو الانهيار الكبير!
يذهب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926 – 1984)إلى أن النظام السائد يقوم دائماً بإعادة إنتاج “الخوف” من أجل استمرار السيطرة على المجتمع. وطبقاً لذلك يمكن القول: إنّ “الخوف من المستقبل” تعبير أيديولوجي زائف تستخدمه النيوليبرالية كوسيلة لتأبيد سيطرتها.
إنّ الرأسمالية العولمية ليست نظاماً أبدياً أو نهاية التاريخ كما يزعم المُنظّر الأمريكي يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما (1952 – )[10], بل مرحلة عابرة في التاريخ الإنساني, وهي حالياً تشهد أزمات بنيوية جذرية عاصفة من شأنها أن تُفضي إلى تحولات كبرى.
يُشبّه الفيلسوف البريطاني كريس هارمان (1948- 2009) رأسمالية القرن الـ21 بالزومبي (Zombie) أي الجثة المتحركة, فيما يرى هنري كيسنجر (1923- ) وزير الخارجية الأمريكي الأسبق بأن جائحة كورونا ستغيّر طابع النظام العالمي للأبد!
ثمّة عالم متثور الآن, وثمّة حراك احتجاجي تتسع قاعدته الجماهيرية في جهات الأرض الأربع, وتتعدد أشكاله الملموسية وتتطور, مثل: النقابات العمالية, وأنصار البيئة والسلام, وحركة مناهضي العولمة, وحركة العدالة العالمية, وحركة تغيير العولمة, والحركات الفلاحية الأوروبية, وحركة احتلوا وول ستريت الأمريكية, واحتجاجات أصحاب السترات الصفراء, وجماعات اليسار والعدالة الاجتماعية ودعاة حماية الهويات الوطنية, وانتفاضات الشعوب في العالم العربي وفي غير مكان من العالم…إلخ.
وثمّة ــ أيضاً ــ كيانات وتجمّعات اقتصادية وسياسية إقليمية ودولية بزرت إلى السطح, أبرزها: مجموعة البريكس (BRICS) وبنك التنمية الجديد التابعة لها, ومنظمة شانغهاي[11].
ناهيك عن العودة الفاعلة لروسيا إلى المسرح الدولي, والنمو المتصاعد للصين, ولبعض دول شرق آسيا وبعض دول أمريكا اللاتينية, كل هذه المتغيرات من شأنها أن تكسر حلقة الهيمنة الغربية وإحداث توازن في النظام الدولي.
في آخر مقالة له قبل وفاته بأيام معدودة, كتب د. سمير أمين ما يشبه الوصية:[12]
“هذا زمن «خريف الرأسماليّة»، دون أن يكون معزّزاً بظهور «ربيع الشعوب» وبأفق اشتراكيّ. لا يجب أن نقع في وهم إمكان إجراء إصلاحات تقدميّة رئيسة في صلب الرأسماليّة، إذ لا يوجد بديل عدا ذلك الذي يُمكّن من تجديد اليسار الجذريّ الأمميّ القادر على تحقيق- وليس فقط تصوّر- إنجازات اشتراكيّة. يجب الخروج من الرأسماليّة المتأزمة هيكليّاً وليس السعي إلى الخروج من هذه الأزمة الرأسماليّة.” داعياً إلى تأسيس “أممية العمال والشعوب” كإطار عالمي يضم كل المناهضين للرأسمالية العولمية المتطلعين إلى عالم إنساني تسوده الديمقراطية والمساواة والعدالة والتقدم.