تقارير وتحقيقات
في الذكرى الخمسين لوفاة عبد الناصر: إرث مختلف عليه وجدل لا ينتهي
ريبون / BBC
بعد مرور خمسين عاماً على وفاته، لا يزال إرث الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر محل نقاشات ساخنة، لاسيما كلما طفا على السطح جدل بشأن قضايا بعينها كالتطبيع مع إسرائيل.
فهناك من يراه “رمزا للكرامة والوحدة العربية ومناهضة الاستعمار”، وهناك من يتهمونه بـ”الاستبداد والتنكيل بمعارضيه” ويحملونه مسؤولية هزيمة ثقيلة.
ونتعرف خلال السطور التالية على أبرز المحطات في حياة عبد الناصر الذي يظل أحد أبرز الشخصيات السياسية في التاريخ الحديث للشرق الأوسط.
سنواته الأولى
ولد جمال عبد الناصر في مدينة الإسكندرية عام 1918 لأسرة بسيطة تعود أصولها إلى صعيد مصر وكان والده موظفاً بهيئة البريد. وقد تنقل مع أسرته بين عدد من محافظات مصر بحكم عمل والده. وبدأ نشاطه السياسي في سن مبكرة مشاركاً في مظاهرات طلابية مناهضة للاستعمار البريطاني، أصيب في إحداها في رأسه ما ترك ندبة على جبهته.
وقد تسبب نشاطه الطلابي في حرمانه من الالتحاق بالكلية الحربية في بادئ الأمر، فدرس بكلية الحقوق لبضعة أشهر، ثم عاود المحاولة مرة أخرى وقُبل في الكلية الحربية وتخرج فيها عام 1938 بعد مرور 17 شهراً فقط نتيجة استعجال تخريج دفعات الضباط في ذلك الوقت.
“فلسطين ليست أرضاً غريبة”
التحق جمال عبد الناصر فور تخرجه بسلاح المشاة وخدم في مواقع مختلفة ما بين صعيد مصر والعلمين والسودان وتعرف خلال هذه الفترة على زملائه الذين أسس معهم تنظيم الضباط الأحرار فيما بعد، كما عُين مدرساً بالكلية الحربية.
وشارك عبد الناصر في حرب فلسطين عام 1948، متطوعاً في البداية ثم ضمن صفوف الجيش المصري حين شنت الدول العربية هجوماً عسكرياً لطرد الميليشيات اليهودية من فلسطين بعد انتهاء الانتداب البريطاني، وصدور قرار من الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين لدولتين يهودية وعربية.
وفي كتاب “فلسفة الثورة” الذي صدر عام 1954، يقول عبد الناصر عن تطوعه في صفوف الفدائيين في فلسطين قبل دخول مصر حرب 1948: “لما بدأت أزمة فلسطين كنت مقتنعاً في أعماقي بأن القتال في فلسطين ليس قتالاً في أرض غريبة، وهو ليس انسياقاً وراء عاطفة، وإنما هو واجب يحتمه الدفاع عن النفس”.
ويُعتقد أن تلك الحرب التي انتهت بسيطرة الجيش الإسرائيلي على معظم منطقة النقب وتطويق القوات المصرية المتمركزة قرب بلدة الفالوجة شمال غزة كانت من بين أسباب قيام تنظيم الضباط الأحرار بثورة يوليو/ تموز عام 1952، التي أنهت حكم أسرة محمد علي لمصر، في ظل ما أثير عن مخالفات شابت صفقات أسلحة للجيش في تلك الفترة.
نهاية حكم أسرة محمد علي
في صيف عام 1949 تشكلت لجنة تنفيذية من الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر، وفي 23 يوليو / تموز 1952 تحركت وحدات من الجيش موالية للتنظيم واُجبر الملك فاروق على التنازل عن العرش ومغادرة البلاد. وفي عام 1953 صدر قرار من مجلس قيادة الثورة بإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، وبإسناد رئاسة الجمهورية إلى محمد نجيب.
وفي عام 1953 قاد عبد الناصر الوفد المصري للتفاوض على انسحاب القوات البريطانية من مصر نهائيا، وبعد ذلك بعام وقعت اتفاقية بين جمال عبد الناصر بصفته رئيس وزراء مصر وأنتوني ناتينج، وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطاني، ونصت هذه الاتفاقية على جلاء البريطانيين بالكامل عن مصر في غضون عشرين شهرا وانقضاء معاهدة التحالف التي كانت قد وقعت في لندن في عام 1936.
وإثر استفتاء أجري في يونيو 1956 تولى عبد الناصر الرئاسة، بعد وضع محمد نجيب تحت الإقامة الجبرية إثر تنامي الخلافات بينه وبين مجلس قيادة الثورة.
ويرى أنصار عبد الناصر انه انحاز للفقراء بسياساته الاشتراكية، فيما يتهمه منتقدوه بشن حملات ” قمع ” ضد معارضيه ويحملونه مسؤلية تدمير الحياة السياسية والحزبية في مصر لعقود من خلال حل الاحزاب واعتماد سياسة الحزب الواحد.
تأميم القناة يدشن لمرحلة جديدة
جاء تأميم قناة السويس وما تبعه من استخدام بريطانيا وفرنسا وإسرائيل القوة العسكرية ضد مصر فيما عُرف بـ”العدوان الثلاثي” ليدشن مرحلة جديدة في حكم عبد الناصر، فقد أُعتبر تأميم القناة في حد ذاته عنواناً للكرامة الوطنية فيما أدى النصر “السياسي” الذي خرج به الرئيس المصري السابق بعد انتهاء “العدوان الثلاثي” بضغوط دولية إلى ترسيخ صورته كزعيم مناهض للتبعية ومساند لحركات التحرر في المنطقة وداعم لاستقلال الشعوب.
ولعب عبد الناصر دوراً محوريا في تأسيس حركة عدم الانحياز التي انعقد مؤتمرها الأول في بلغراد عام 1961، وكان هدفها الرئيسي الابتعاد عن سياسات الحرب الباردة والاستقطاب السائد وقتها بين المعسكرين الغربي والشرقي. ويُعتبر عبد الناصر من مؤسسي الحركة الأوائل، مع رئيس الوزراء الهندى نهرو والرئيس اليوغوسلافي تيتو والرئيس الأندونيسى سوكارنو.
ساند عبد الناصر حركات التحرر في القارة الإفريقية، انطلاقاً من إيمانه بكون أفريقيا “دائرة محورية بالنسبة لمصر”، كما ساهم في الجهود الساعية آنذاك إلى تكوين منظمة الوحدة الأفريقية التي اتخذت من أديس أبابا مقرا لها، ومن الدول المحررة نواة لها.
القومية العربية
لطالما نُظر إلى جمال عبد الناصر كأحد دعاة فكرة القومية العربية انطلاقاً من إيمانه بأن “الدائرة العربية هي أهم الدوائر وأوثقها ارتباطاً بمصر”، فتمكن من تحقيق الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 (تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة) وإن كان ما لبث أن انفرط عقدها بعد ثلاث سنوات.
وأيد عبد الناصر كذلك ثورة قادة الجيش العراقي على الحكم الملكي عام 1958، وكان له دور بارز في مساندة ثورة الجزائر، وكذلك ثورة اليمن عام 1962.
ويظل قرار إرسال قوات إلى اليمن موضع انتقادات شرسة حتى الآن، إذ رآه كثيرون إهداراً لموارد البلاد وإنهاكاً الجيش على سفوح جبال اليمن، معتبرين ذلك أحد الأسباب وراء هزيمة الجيش المصري أمام إسرائيل في يونيو/ حزيران 1967.
وفي مؤتمر القمة العربي الأول عام 1964 الذي دعا إليه جمال عبد الناصر تم الإعلان عن إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية “قيادة معبئة لقوى الشعب العربي الفلسطيني لخوض معركة التحرير، ودرعاً لحقوق شعب فلسطين وأمانيه، وطريقاً للنصر”.
وجاءت حرب يونيو/ حزيران 1967 لتكون بمثابة الانتكاسة الأكبر في مسيرة عبد الناصر ومشروعه القومي العروبي، إذ تمكنت القوات الإسرائيلية من اقتطاع شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة، والضفة الغربية والجولان السوري.
ولم يجد عبد الناصر بُداً من إعلان التنحي عن منصبه وتحمل مسئولية الهزيمة، إلا أنه تراجع في اليوم التالي بعد خروج مظاهرات ترفض تنحيه.
وكانت المحطة الاخيرة في حياة عبد الناصر هي مؤتمر القمة العربية عام 1970 ( الذي عقد بصفة استثنائية إثر ما يعرف بأحداث “أيلول الأسود”)، فقد توفي بعد يومها الأخير بنوبة قلبية في 28 سبتمبر /أيلول.