الثقافة والفن
حضرموت.. نشاط ثقافي متميّز يودِّع الجمود
د.علي صالح الخلاقي:
في كل مرة أزور حضرموت أزداد بها عشقاً وهياماً، ويسبقني الشوق دائما للقاها..فهناك أجد أجواء قريبة وحببه إلى نفسي ومحيط اجتماعي أليف، خاصة حين يكون ذلك المحيط زملاء تجمعني بهم الاهتمامات البحثية والعلمية، ومقصد الزيارة هو المشاركة في ندوات علمية أو مؤتمرات ذات صلة بالتاريخ والمؤرخين الحضارمة.
في أواخر أكتوبر الماضي كنا في أحضان شبام العالية، مدينة حضرموت وحاضرتها التاريخية لقرون خلت، حيث ينطق التاريخ بكل جلاله وهيبته وشموخه المُجَسَّد بأقدم ناطحات سحاب ترابية في العالم، وأذهلنا الاحتفاء الشعبي بالندوة العلمية “المظاهر الحضارية العسكرية التقليدية في حضرموت”، التي شعر الشباميون أنها أعادة لهم الأمل في استحضار مكانة مدينتهم التاريخية والثقافية والسياحية، بعد سنوات من القطيعة والنسيان. ولن ننسى ما حيينا كيف خرجت المدينة بتراثها وأهازيجها وكيف شاركناهم رقصة “الشبواني” و”الزربادي” واستمتعنا بصوت فنانيها ورقصات أناسها وتشبعنا بعبق التاريخ ونحن نتجول بين حاراتها ونصلي في مساجدها العتيقة، أو نصعد في متحفها الذي حافظ على نماذج من موروثها وعاداتها وتقاليدها..الخ. وأدركنا كم هي شبام وكل مدن وادي حضرموت مراكز جذب سياحي، إذا ما وضعت الحرب أوزارها وساد الأمن والسلام.
وفي الأسبوع الماضي كنا في المكلا للمشاركة في المؤتمر العلمي الثالث لمركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر الذي عُقد في 30ديسمبر2018م تحت شعار (التاريخ والمؤرخون الحضارمة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين)، حيث وصلناها مساء السبت الماضي عشية انعقاد المؤتمر، وكالعادة دخلنا المكلا بسلام آمنين، وأدهشنا الفارق الذي لمسناه عما هو الحال في عدن في حضور الدولة ومؤسساتها الأمنية الملحوظ، وغياب مظاهر حمل السلاح بيد كل من هب ودب،أو الضرب العشوائي في الأفراح، وكذا غياب الأطقم مجهولة الهوية والسيارات التي لا تحمل أرقاما، فكل السيارات التي رأيناها مرقمة بما فيها سيارات الجيش والأمن، وحتى الدراجات النارية جرى ترقيمها، وإن رأينا بعضها في المساء بدون أرقام فهي حالات نادرة لا يستطيع أصحابها التحرك فيها نهارا خوفا من شرطة المرور ولذلك تكون حركتهم ليلاً كالخفافيش، كما لاحظنا جنود النقاط وهم بزيهم العسكري الموحد ولا يتعاطون أوراق القات، وشتان بين هيئتهم العسكرية المشرفة وهيئة نظرائهم في نقاط عدن الذين ترى معظمهم بأوداج منتفخة ممتلئة بأوراق القات والبعض حفاة أو بلباس عسكري جزئي أو خليط بين المدني والعسكري.
كانت مهمتنا حضور فعاليات المؤتمر العلمي الثالث لمركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر الذي يتوج ثلاث سنوات من عمر المركز، وفؤجئت صباح انعقاد المؤتمر بأنني سأتولى تقديم جلسته الافتتاحية، وهو شرف أعتز به، وقد وضعني الزملاء في مركز حضرموت وأنا الضيف القادم من عدن في مرتبة المُضيف، ولسان حالهم يقول:
( يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا … نحن الضيوف وأنت رب المنزل )
وبعد الترحيب بالحضور والضيوف، أوجزت بالأرقام الحصاد المثمر لثلاث سنوات من عمر المركز، منها عقد ثلاثة مؤتمرات علمية عن التاريخ والمؤرخين الحضارمة، وست ندوات علمية عن شخصيات وأحداث تاريخية حضرمية، وخمس حلقات نقاش ذات ارتباط بتاريخ وتراث حضرم، وفعاليات شهرية منتظمة ومفتوحة في مقر المركز، ومؤتمر دولي في اندونيسيا عن الهجرة الحضرمية ودور الحضارم في هذا البلد الإسلامي، كما اصدر المركز 20كتاباً ، وكذا انتظام صدور مجلة (حضرموت الثقافية) الفصلية..فكان من الواجب التوجه بتحية تقدير وتعظيم سلام للمشرف العام ولفريق إدارة المركز الذين كانوا وراء هذا النجاح الباهر، بحيث تحول المركز خلال وقت قياسي إلى منارة إشعاع أضاءت بنورها المشهد الثقافي والمعرفي في حضرموت بعد زمن الجدب والقحط الثقافي التي عانت منه لسنوات عجاف، وكأنما كان الشاعر باكثير يعنيهم بقوله:
مضى زمن الجمود فودِّعُوهُ
ووافاكم زمان العاملينا
زمانٌ ليس يعلو فيه إلاَّ
عصاميٌ جرى في السابقينا
لقد كان هدف مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر من الاحتفاء بذكراه السنوية بهذه الفعالية العلمية النوعية، كما أوضح رئيسه أ.عبدالله سعيد الجعيدي في كلمة الافتتاح، خلق تظاهرة ثقافية ذات دلالات إنسانية تهيء بيئة صحيحة تشجع على التفكير المبدع وتعزز التقارب وتنشد تبادل الخبرات بروح صادقة تحترم تنوع الروئ، وتعدد الاجتهادات. وجدد الدعوة للباحثين والمختصين والمهتمين للتفاعل مع أنشطة المركز القادمة، خاصة وأنه على أعتاب مشروع علمي كبير، يتمثل بالموسوعة الحضرمية، وكل من لديه القدرة والرغبة سيكون شريكاً مرحبا به في وضع بصماته في هذا العمل الموسوعي الكبير الذي تستحقه حضرموت التاريخ والحضارة.
قُدمت للمؤتمر 11 ورقة بحثية أُجيزت حسب المعايير البحثية، كما أوضح رئيس المركز، وتناولت بعض أحداث وشخصيات القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين، وهي مرحلة شهدت تحولات تاريخية كبيرة في تاريخ حضرموت، ففيها انتهت السلطنة الكثيرية الأولى، وخضعت حضرموت لحين من الزمن لحكم الدولة القاسمية الزيدية، ثم لسلطة القوى اليافعية في بعض حواضر حضرموت، كما اتسمت بالفوضى القبلية..لكنها لم تخلو من إشراقات أهل العلم والصلاح الذين جندوا أنفسهم لصالح استقرار المجتمع وتطوره، فتداخلت في بنية المجتمع لغة الرصاص مع كلمات البناء فأوجد ذلك نوعاً من التوازن المجتمعي بفضل ثقل المدرسة الحضرمية بوسطيتها المنتشرة في كل حضرموت ومحيطها.
سارت أعمال المؤتمر على جلستين، الأولى أدارها د. صادق عمر مكنون، وشملت خمسة أبحاث هي: ملامح فن السيرة الذاتية في كتاب (سفينة البضائع وضمينة الودائع) للدكتور.مسعود عمشوش المرجعية الفكرية للحملات الخارجية على حضرموت للأستاذ صالح مبارك عصبان؛ كتاب “المشرع الروي في مناقب السادة أبي علوي” دراسة تحليلة للدكتور عبدالقادر علي باعيسى تراجم الشلي في كتابه “المشرع الروي” للدكتور محمد يسلم عبدالنور؛ رحلة الشيخ عمر بن صالح هرهرة، دراسة وتحقيق، للباحث أحمد صالح الرباكي.
والجلسة الثانية أدارها د.طه حسين هديل وقُدمت فيها ستة أبحاث، هي:حضرموت في السيرة المتوكلية وإشكالية التناول بين المؤلف والمحقق للدكتور حسن صالح الغلام؛ مجموع طه-وثيقة علمية وتاريخية من القرن الحادي عشر الهجري للباحث عوض سالم حمدين علماء حضرموت وأثرهم الدعوي(الإمام عبدالله بن علوي الحداد نموذجاً) للباحث محمد علوي باهارون المظاهر السياسية والحضارية للسلطنة الكثيرية في مدينة الشحر وعلاقتها الخارجية للباحث محمد حسين بن الشيخ أبوبكر؛ ضعف الدولة الكثيرية ونهايتها للباحث يسلم صالح بن دهلوس علماء حضرموت ودورهم المجتمعي للباحث علي سالم باهادي. وأعقب الجلستين طرح الملاحظات والمناقشات والرد عليها.
ثم عُهدت لي مهمة تقديم الجلسة الختامية التي اشتملت على قراءة القرارات والتوصيات الختامية..ثم اعلان أسماء المكرمين ممن شاركوا بأبحاث في المؤتمر بشهادات تقديرية.
تميزت أجواء المؤتمر هذه المرة بالحضور المشرِّف للأخ محافظ حضرموت فرج سالمين البحسني، رغم انشغالاته الأمنية والعملية، وهي المرة الأولى التي نراه في فعاليات مركز حضرموت، ولا شك أن النجاحات التي حققها المركز وحضوره القوي في المشهد الثقافي الحضرمي قد بلغت مسامعه فوجدت ترحيبا وتشجيعا منه فكان حضوره المفاجئ، وثنائه في كلمته المرتجلة، التي اختار كلماتها بعناية، على الجهود الي يبذلها القائمون على المركز في تدوين وإبراز تاريخ حضرموت للتعرف الأجيال على تاريخها وإرثها الحضاري وقال:” إن حضرموت اليوم بحاجة إلى تنمية شاملة ليس في المجالين الاقتصادي والأمني فحسب، بل ينبغي الاهتمام بتوثيق تاريخها فهو الإرث الأساسي والسند والعمود الذي ستُبنى عليه جميع الاستراتيجيات ، وبدون العودة لتاريخ حضرموت وحضارتها لا يمكن للأجيال أن تشق طريقها نحو المستقبل”.
وأكد اهتمام قيادة السلطة المحلية بالمحافظة بالنشاط الكبير الذي يقوم به مركز حضرموت للدراسات التاريخية ومواكبة فعالياته ، وتقديم الدعم اللازم لإنجاح مناشط وأهداف المركز .
شخصياً كان حضور اللواء فرج البحسني فرصة سانحة للقاء بصديقي القديم ركن عمليات سلاح المدفعية والصواريخ، حيث عرفته حينها عندما كنت مجنداً هناك، ثم إعلاميا في برنامج (جيش الشعب)، ورغم التواصل بيننا تلفونيا، إلا أن اللقاء بعد أكثر من عقدين ونيف كان حاراً تخلله عناق حار بُعيد إلقاء كلمته، ثم دعانا أنا وزملائي المشاركين من جامعة عدن ومركز عدن للدراسات والبحوث التاريخية إلى جلسة ودية في مسكنه في المساء، لمسنا فيها تواضع الرجل وخلقه الرفيع الذي لم تبلوه الأيام، وتفانيه وإخلاصه للنهوض بحضرموت من خلال موقعه كمحافظ وقائد للمنطقة العسكرية الثانية، كما كان نشاط مركز حضرموت وجهوده المثمرة محور الحديث معه بحضور الزميلين رئيس المركز د.عبدالله الجعيدي، والدكتور خالد بلخشر مدير دائرة الترجمة.
ومن بين الأبحاث المقدمة تميز بشكل خاص بحث أ.د.عبدالقادر علي باعيسى بمنهجه التحليلي الرصين لمؤلف الشلي “المشرع الروي في مناقب السادة الكرام آل أبي علوي”، وهو الكتاب الذي يتحدث عن الكرامات بوصفها فضاء متعدد القيم والشواهد على فضل العلويين ومنزلتهم، وقام على إبراز (الأنا) الاجتماعية (أنا العائلة العلوية) التي تبرز نفسها بوصفها عنصراً نموذجيا من خلال هذا التراكم في تراجم الأعلام وإبراز الكرامات الدَّال على شكل خاص من اشكال الوعي المرتبط بتصور المثالية في العائلة. وكان أستاذ التاريخ د.محمد سعيد داؤود محقا حينما أشاد بالبحث وصاحبه وقال”إن باعيسى اختطفه الأدب ولو كان مؤرخا لأفاد أكثر”، وهذه سمة لكل أبحاث ومشاركات د.باعيسى، وتنم عن مقدرته في الجمع بين القراءات التحليلية للأدب وللأحداث التاريخية بمنهجية علمية رصيه ولغة أدبية راقية.
وما لفت الانتباه هو غياب مشاركة المرأة أو حضورها، فكان المؤتمر (ذكورياً) صرفاً، ولذلك جرى التأكيد في القرارات والتوصيات على السعي لاشراك النساء من الدارسات في أقسام التاريخ والمتخصصات أو المهتمات في تقديم الأبحاث أو الحضور في المؤتمرات والندوات العلمية. كما كان للصدى الإيجابي الذي قوبلت به ندوة المركز السابقة المنعقدة في شبام قبل شهرين وما صاحبها من مظاهر الاحتفاء الجماهيري أثرا في الدعوة إلى انعقاد المؤتمر القادم في إحدى مدن حضرموت الداخل، ولعل العين تتجه إلى تريم لمكانتها العلمية والدينية التاريخية في تاريخ حضرموت والجنوب العربي.