محلية

صوفية حضرموت .. دعاة للسلام والوسطية

تقرير / مطيع بامزاحم

يصفها شيوخها واتباعها ومحبيها بأنها المدرسة الدينية التي لا تؤمن بالعنف ونبذته منذ أكثر من سبعة قرون، وأنها تؤمن بأن الفكر لا يواجه إلا بالفكر، وأنها تمثل حالة متفردة في منهجها وطريقتها وشيوخها الذين كانوا سببا لحالة الاستقرار الذي عاشتها محافظة حضرموت الواقعة شرقي اليمن وتحتل 36% من إجمالي مساحتها،  وكانت أيضا ضامناً للسلم المجتمعي الذي عرفت به، ومشجعة على التعايش مع الآخر وقبوله، حتى أنها استطاعت إدخال شعوب بأكملها في الدين الاسلامي كدول شرق آسيا “اندونيسيا، ماليزيا، سنغافورة” وافريقيا كدول “القرن الأفريقي” دون إراقة قطر دم واحدة.

مدرسة حضرموت الدينية “الصوفية” واحدة من المدارس الدينية السنية التي تعتمد المذهب الأشعري في العقيدة ومرجعهم فيه كتاب “جوهرة التوحيد” للإمام برهان الدين إبراهيم اللقاني المتوفى سنة 1041هـ، والمذهب الشافعي في الفقه ومرجعهم فيه كتاب “منهاج الطالبين وعمدة المفتين” للإمام أبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي المتوفى 676هـ، وعلم التصوف في التزكية والسلوك ومرجعهم فيه كتاب “إحياء علوم الدين” للإمام أبي حامد الغزالي المتوفي 505هـ، ومثلت هذه المدرسة مصدر استقرار ووئام في حضرموت واليمن والدول التي وصل إليها منهجها، وتعايشت مع بقية التيارات الدينية الأخرى حتى تلك التي تختلف معها كثيرا.

البدايات

عرفت حضرموت منهج التصوف في القرن السابع الهجري حيث كان المجتمع يعج بالصراعات والناس منصرفه نحو الدنيا ومنكبه عليها، يوضح الاستاذ المشارك بجامعة حضرموت عضو مجلس الشورى ووزير الأوقاف الأسبق  د. فؤاد عمر بن الشيخ ابوبكر تلك المرحلة فيقول: “دخل التصوف إلى حضرموت عن طريق الشيخ شعيب أبي مدين الذي أتى من المغرب واتصل بشخصيتين مهتمتين في ذلك الوقت، هما الفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي نقيب السادة العلويين، والشيخ سعيد العمودي الذي كان له ثقله وتأثيره في المجتمع، وانتشر التصوف عبرهم الي قبائلهم وبقية القبائل في حضرموت، وتأثر الناس وقتها بكتب الامام محمد الغزالي ككتاب إحياء علوم الدين وغيره من الكتب التي نقلها الامام عبدالله بن علوي الحداد في سلسلة كتبه بأسلوب مبسط وسهل، وتعريفه عند علماء مدرسة حضرموت لايختلف عن تعريفه العام، فهو العلم الذي يهدف لتحقيق مقام الإحسان الذي يعد الركن الثالث من أركان الدين بعد الاسلام والإيمان”.

ويضيف ” لذلك فالتصوف عندهم علم وعمل، ولهذا انتشر الإسلام في كثير من الدول في شرق اسيا وافريقيا عندما وصلها عن طريق أهل حضرموت بشكل سلمي ولم يكن عن طريق الفتوحات العسكرية كما هو الحال في كثير من البلدان الأخرى”.

كسر السيف

تعد حادثة “كسر السيف” من قبل الفقيه المقدم محمد بن علي بن باعلوي في تريم حضرموت في القرن السابع الهجري نقطة تحول فارقة في تاريخ المنطقة بأكملها، فمن خلال هذه الحادثة الشهيرة جرى الإعلان بشكل صريح عن التخلي عن السلاح والتحول بإتجاه العلم، لينتج عن ذلك الموقف حاله من التعايش السلمي ووضع السلاح من قبل كثير من القبائل الحضرمية.

يشير خطيب جامع بازرعة بمدينة المكلا الشيخ حسين الجفري إلى هذه الحادثة ونتائجها فيقول ” حادثة كسر السيف إحدى الصفحات والمحطات المشرقة في تاريخ حضرموت والتي أسهم التصوف في صناعتها كمبادرة عالمية في صناعة السلام والمدنية المعاصرة وليس فقط على مستوى حضرموت، وتبعها كثير من الأسر والقبائل الحضرمية إلا فيما يتعلق بالدولة أو بعض القبائل التي تلجئ الى المرجعيات الصوفية من علماء ومناصب وغيرهم في حل كثير من القضايا والثأرات والصلح فيما بينهم”.

الحوطة

وهناك نموذج آخر سنته مرجعيات صوفية حضرموت في إطار محاولاتها لتثبيت السلم المجتمعي وتجفيف مستنقعات العنف والفوضى، فأسسوا المدن التي أطلق عليها “الحوطة” مثل “حوطة أحمد بن زين” “وحوطة سلطانه” وغيرهما، و “الحوطة” هي منطقة يحدد أبعادها الشيخ فتصبح حرما يمنع فيها سفك الدماء أو التعرض لأي إنسان مهما كان حجم العداء الذي بينك وبينه.

ويؤكد الشيخ حسين الجفري “بأن “الحوطة” لم يكن لها دور في تعزيز السلم المجتمعي فقط، بل والاقتصادي كذلك، حيث كانت مأمنا لكل الناس وسوقا يبيع فيها ويشتري الجميع دون أن يتعرض أحد للآخر داخلها حتى ولو كان قاتل أبيه”.

المنصب

من الطرق التي اتبعتها مدرسة صوفية حضرموت في تثبيت السلم المجتمعي أيضا مايعرف بـ “المنصب” وهو شخصية دينية ومرجعية يختصم إليها الناس عند الاختلاف وتحظى بتقدير واحترام جميع من في المجتمع.

يرى د. فؤاد بن الشيخ ابوبكر  “بأن من الطرق التي أدت الى استمرار حالة السلام في حضرموت، أن القبائل فيها ترتبط بشخصية “المنصب” فكل قبيلة انضوت تحت لواء منصب معين، وكانت هذه المرجعيات تحكم بينهم وتصلح وتنهي الصراعات التي تحدث بين فترة وأخرى، وأثمرت تلك الجهود في تحقيق السلم الاجتماعي لقرون طويلة، حتى أن “المنصب” إذا دخل أرض معركة أو وسط اشتباك بين قبيلتين أو متنازعين تتوقف لمجرد دخوله أو مروره بينهم احتراما وتقديرا له ولما بينهم من العهود والمواثيق حتى يتم الصلح وتنهي حالة الصراع”.

الذم والدم

ومما يميز مدرسة حضرموت كذلك في القضاء على أسباب العنف والصراع، أنهم ينطلقون في مقاومتهم لهما عبر إتباع مايسمونه “منهج السلامة الواعي” والبعد عن “الذم والدم” في إشارة إلي حفظ اللسان عن الخوض في أعراض الناس “الذم”، وكف اليد عن سفك دمائهم “الدم”.

يقول الشيخ حسين الجفري هم بذلك “يسعون لإيضاح سبيل السلامة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن في ميادين العلم والفكر والمعرفة بعيدا عن لغة “الذم والدم” رغم العنف الذي يتعرضون له”.

محاولات الإجتثات

رغم التجربة المتفردة لمدرسة صوفية حضرموت في نشر الأمن والطمأنينة وتعزيز السلم المجتمعي وابتكار أساليب لضمان تحقيقهما، الا انها تعرضت لمحاولات كثيرة لاجتثاتها من قبل المناوئين لها ولمنهجها قديما وحديثا، حتى أن بعض تلك الحملات أخذ جانب العنف والقوة.

يقول د. فؤاد بن الشيخ ابوبكر ” أن حضرموت تعرضت لثلاث حملات عسكرية اجتاحت كثير من المناطق الحضرمية وشرعت بتكسير القباب، وهي حملات سياسية وليست شرعية وتأتي في نطاق التوسع وجعلت من الدين مطية للوصول للحكم”.

ويضيف “في السنوات الأخيرة مثّل دخول تنظيم القاعدة الى مدينة المكلا ومدن الساحل الحضرمي نهاية شهر ابريل عام 2015م آخر مظاهر محاولات الاجتثات فقد قام التنظيم خلال تلك السنة بتفجير وتكسير القباب الشهيرة، وكذا التضييق على شيوخ وطلاب المنهج الصوفي في مساجدهم واربطتهم التعلمية المنتشرة مما اجبرهم على إغلاقها أو توقيف نشاطها”.

خروج من دائرة الصراع

طبيعة حضرموت لاتختلف كثيرا عن طبيعة المنطقة وصراعاتها منذ القدم، لكن منهج التصوف عندما انتشر فيها استطاع إخراجها من دائرة الصراعات إلى دائرة السلم.

يرى الكاتب الصحفي امجد سالم الرامي “بأن البيت الشعري الذي يقول “فَلَو أَنَّ واشٍ بِاليَمامَةِ دارُهُ .. وَداري بِأَعلى حَضرَمَوتَ اِهتَدى لِيا” يلخص شيئا من حال حضرموت عند الحديث عن نظرة العرب لها، فهي أرض نائية بعيدة نالها ضيم وظلم ليس بالهين، ومهما يكن من حالها فانها لم تكن لتنقطع عن طبيعية المنطقة وصراعاتها منذ فترة ماقبل الاسلام ومابعده فعاشت اضطراب المنطقة بكل مافيها”.

ويضيف الكاتب امجد الرامي “في اعتقادي أن حضرموت لم تكن لتلين طبيعتها وأهلها لولا فشو التصوف بينهم، وكأن شعب حضرموت كان ينتظر من يخرجه من الصراعات المرهقة، ويتميز المنهج الصوفي في حضرموت عن غيره من المناهج الصوفية الأخرى في أن اثره على المجتمع كان قويا وواضحا، من ترك للسلاح والنهب والسلب والمغالبة، ولربما ادرك الحضارمة الميزة الحقيقة التي جعلتهم يثقون في التصوف ودعاته كونهم لايطلبون حكما ولا يحملون سيفا له، وهي الاشياء التي انهكت الحضارم خلال تاريخهم الطويل”.

سر الصمود

رغم الحملات الكثيرة التي شنت على مدرسة صوفية حضرموت خلال المراحل السابقة الا أنها كانت دائما صامدة وتجدد نفسها.

يوضح د. فؤاد ابن الشيخ ابوبكر بأن السر وراء صمود مدرسة حضرموت وبقائها “أنها لاتتمادي في الصراع ولاتكون جزء منه أو طرف فيه ولاتنحاز لأي جهة ولاتطالب بسلطة ولا بأن تكون جزء من نظام أو حزب، وتؤمن بالتعايش وينصب اهتمامها بدرجة أساسية في إسداء النصحية ونشر العلم والاهتمام بالتربية الصحيحة وبث منهج الوسطية والاعتدال في مواجهة خطاب التطرف”.

تحديات

المتابع لمسيرة الصوفية في حضرموت وتقلبات المراحل التي تمر بها سيصل إلى حقيقية مفادها أن هناك تحديات كثيرة تواجهها ومحاولات لجرها بإتجاه التخلي عن مبادئها والتحول نحو الانخراط في أتون الصراع والنزاع.

يعتقد الشيخ حسين الجفري بأن التحديثات التي تواجه صوفية حضرموت تتمثل في “مواكبة المستجدات ووسائط الإعلام المعاصر ووسائل التواصل الاجتماعي وصد غوائلها ومخاطرها فيما يتعلق بشؤون التربية والسلوك وتفكيك الحملات الفكرية والفلسفية والإخلاقية المضادة والمدمرة للشباب والمجتمع، إلى جانب التحديات الإدارية والمالية المطلوبة لمواجهة الافكار والتيارات المتطرفة والواقعة في الإفراط أو التفريط بإسم الدين أو بإسم غيره”.

فيما يعتبر الدكتور فؤاد بن الشيخ ابوبكر أن ابرز تلك التحديات تتمثل في: “المحاولات الكثيرة التي تسعى لاستغلال مدرسة صوفية حضرموت لغرض إدخالها في العملية السياسية ومحاولة سحب رموزها إلى صفوف الأطراف المتصارعة في البلاد، وكذلك هناك محاولات لهدمها من الداخل عبر استقطاب بعض الشباب من أبناء الأسر المعروفة بانتمائها الي المنهج الصوفي وتحويلهم باتجاه الأفكار المتطرفة في محاولة لإحداث تاثير في هذه الطريقة عبر أبنائها”.

بينما يرى الكاتب امجد الرامي، “بأن ما حدث في المنطقة أبان مراحل الحكم السابقة من تجريف طال المؤسسات الدينية ذات النهج الأشعري التصوفي كانت نتيجته أن اكتسحت البلاد مذاهب متشددة وتصادمية”.

ويشير إلى أنه ورغم ذلك فإنه “لايعفي المدرسة الأشعرية الصوفية من تحملها ايضا بعضا من اسباب التراجع ففشو الخرافة والتمجيد السلالي كان له دورا في التراجع امام الأفكار القادمة”.

ويعتقد الكاتب امجد الرامي “أن الفكر الصوفي والعقيدة الأشعرية في حضرموت بدأت تتعافى اليوم لسببين، الأول صدمة مؤيدي الفكر الوافد من الأثر الذي تركته هذه الافكار الوافدة سياسيا ومجتمعيا عليهم، والثاني يتمثل في بروز أعلام صوفية احسنت الخطاب وجنحت الى العقل في طرحا، بالإضافة إلي أن الظرف المحلي حاليا يخدم وبقوة تمكين الفكر الصوفي وانتشاره خاصة اذا نبذت افكار السلالة والخرافة”.

دعوة للإستفادة

تجربة مدرسة صوفية حضرموت في نبذ العنف والبعد عن الصراع ونشر السلم المجتمعي منذ القرن السابع الهجري وصولا إلى اليوم، تجربة تحتاج إلى دراسة مستفيضة وتسليط الضوء عليها من أجل الإستفادة من إيجابياتها ومحاسنها وتطويرها لتتناسب مع معطيات هذا العصر الذي نعيش فيه، خصوصا وأننا في اليمن بشكل خاص وكثير من الدول العربية نعاني من الصراعات التي خلفت مآسي كبيرة كانت سببا رئيسيا في تمزيق التعايش وإلغاء الآخر وفتح الباب على مصراعيه لخطاب التطرف، علّنا نخرج من نفق الصراع المحتدم إلى فسحة السلام المنشود.

إغلاق