كتابات
البار.. وواقع ما قبل السقوط
ريبون / كتابات
كتب / د. أحمد باحارثة
سخّر حسين محمد البار (ت 1965) قلمه وبيانه لأبناء وطنه، لم يوفر وسيلة لعرض مأساة قومه، ناصحًا ومحذرًا، وكان منبره هو صحيفته (الرائد)، وقد توزعت قضاياه ما بين الهم الداخلي الذي له الحظ الأكبر منها، هذا الهم تمثل في نقد أداء الأجهزة الإدارية للحاكم، وفي علاقة حضرموت بالوجود الاستعماري ومعاهداته.
في ما يتعلق بالأداء الحكومي نجد البار صريح في ما يكتبه، فهو منذ أول مقالة نجده يقول: “كل الناس في هذه البلاد غير راضين عن هذا الوضع الحكومي القائم”.
ويشخص مشكلة إدارة الحكم في الجرثومة القديمة الحديثة المنعوتة بالمركزية، “هذه المركزية التي تستأثر بالحكم والإدارة، وتنفرد بالتشريع والتنفيذ”. ومن ثم تجعل كل محاولة إصلاح غير فاعلة، وكل علاج غير ناجع.
وعلى هدي حرصه على عدم تضخم المشاكل بسبب المركزية دعا إلى تشكيل مجلس تشريعي، بل رأى “أن عدم إنشاء مجلس تشريعي لهذه البلاد أمر أصبح السكوت عليه من الجرائم الوطنية”.
ومع استمرار البار في الكتابة الناصحة المرشدة كان يواجهه استمرار معاكس من حكام لا يحبون الناصحين، فهم في غفلة لا يعون، وعن غيهم لا يرجعون، ولا يتجاوبون مع أي إشكالات أو تساؤلات تثيرها الصحافة الغيورة على الوطن المتدهور، يقول البار: “تعودنا من هؤلاء المسؤولين دائماً وأبداً عدم التجاوب مع الصحافة – وخاصة المحلية منها – واتباع سياسة الصمت الذهبي”.
وبعد أن كان يصرح بوجود أمل في أولئك المسؤولين الحكوميين عاد ليكفر بهم، ويندد بسلوكهم، وقال بصوت عال: “نحن لا نؤمن بجدوى أي طلب أو رجاء يقدم إلى هذه الجهات الحكومية، فقد بح كل صوت، وخاب كل رجاء”.
وما زال الغضب والغيرة على حال الوطن يستبد بالبار حتى بدأ يوجه تهمة تدهور الأحوال وسوء الأوضاع لثلة بعينها مهيمنة على الجهاز الحكومي، ومسئولة عن حالة الشلل والسلبية التي يعاني منها، ويمد أصبعه إليهم يقول: “هو عاجز لأنه مؤلف من خمسة شيوخ أفناهم الدهر، ولكنهم لا يريدون أن يعترفوا”.
ومن هنا صارت كلماته تتجه نحو العبارات الغاضبة والملوحة بالتحريض أو الدعوة للثورة من مثل قوله: “جمود الحال، سوء الوضع، صمم الجهاز الحكومي الأعلى، فساد الأحوال، تعثر سير الأعمال؛ كل هذه الصفات وغيرها من السمات أصبحت شيئاً بارزاً يتميز به هذا العهد الحاكم وهذا الوضع القائم.
ونتج عن ذلك فساد عام في سائر نواحي الحياة؛ ويأس قاتل استولى على جميع النفوس التي تضطرب في مختلف أنحاء هذه البلاد.
وأصبح الناس يعيشون بلا أمل وسط هذه الحلقة المفرغة التي لا يكاد يتميز ليلها عن نهارها، ولا يختلف أمسها عن غدها. وترتفع الصيحات من كل مكان محاولة إزاحة الكابوس الجاثم على كل صدر”.
وكان البار يأمل إصلاح وضع بلاده المتردي عبر الاستفادة من زيارات ممثلي الوجود البريطاني من عدن لحضرموت؛ ويحث المسؤولين على رفع الشكاوي وتقديم المطالب للزائر البريطاني، كأن يقول: “نرجو المسؤولين في الدولتين أن يقوموا بعرض مشاكلنا على سعادة الوالي ويبسطوها جميعاً بصورة واضحة صريحة”.
ولا ينسى أن يذكر البريطانيين بواجباتهم المترتبة على المعاهدات التي أبرموها مع حكام حضرموت، كقوله: “إن لنا عليكم يا صاحب السعادة واجبات الحماية، ولنا حقوق الصداقة”، وقوله: “لا نرى مقابلاً لصداقتنا معكم – أنتم البريطانيين عدا بعض المساعدات البسيطة التي لا يمكن أن يكون لها أي شأن في بعث هذا الشعب وإصلاح أحواله السياسية والاقتصادية”.
وأمام تخاذل الجميع عن مسئولياتهم عرف البار أن التغيير قادم ولابد، وأنه سيجرف الجميع، فردد صرخته الأخيرة قائلا: “نقول للمسؤولين بكل صراحة، بأنه إذا جاز السكوت عن المطالبة بالإصلاح العام ووضع المخططات اللازمة لذلك في الماضي فإنه اليوم يعتبر جريمة لا تغتفر، وأنه سوف يحدث ردة فعل سيء ونتائج عكسية خطيرة ليس يعلم إلا الله مدى ما يترتب عليها بالنسبة لمستقبل حياتنا الاقتصادية والاجتماعية وغيرها”.
والبار يقدم تلك الصيحة المحذرة عبر قراءته لما يموج في محيط حضرموت العربي من هزات سياسية، ويقول: “إلى متى سيظل الحال عندنا هكذا دون إصلاح، دون تغيير؟ إلى متى سنظل جامدين، راكدين والدنيا من حولنا تتحرك، والمنطقة التي نقع ضمنها، كجزء منها، تتنزى وتتعرض لأحداث كبار، ربما غيرت المعالم وقلبت الأوضاع، ونسفت الكثير مما نحرص عليه ومما لا نحرص عليه.
لقد اتضح لنا بما لا مجال فيه للشك إننا لن نعرف شيئاً عن حاضرنا، ولا عن مستقبلنا، فضلاً عن أن يسمح لنا بحق الاشتراك في إصلاح هذا الحاضر، أو صنع ذلك المستقبل، ربما إلى أن يفرض علينا سلوك طريق خاص، أو اتجاه معين!!”.
ولم ينتظر حسين البار إلى أن يفرض عليه سلوك طريق خاص، أو اتجاه معين، بل اختار هو طريقه واتجاهه، فسارع بإغلاق صحيفته بهدوء، وبتواري صحيفته التي أتم بها رسالته توارى جسده الطاهر في التراب، وسلكت روحه طريقها باتجاه السماء.. فكأنه يطل منها اليوم علينا مرددًا قوله تعالى: “فستذكرون ما أقول لكم”.