كتابات

باذيب أبو اليسار اليمني

كتب : فتحي أبو النصر

كان عبد الله باذيب أبا اليسار في اليمن ومنطقة الجزيرة والخليج العربي: اول مؤسس لحزب علماني اشتراكي في عدن والمنطقة ( حزب اتحاد الشعب الديمقراطي ) الذي تأسس في 22 اكتوبر من عام 61م حيث كان يرفع شعار (نحو يمن حر ديمقراطي موحد)، بينما تأسست خلاياه الأولي في عدن عام 53م، وتشكل فرع تلك الخلايا في الشمال عام 58م، كما تتفق المصادر.

كانت كتابات الراحل التقدمية تحصد الاحترام والإعجاب الشديدين من قبل المجتمع وبالذات الطلبة والعمال والمثقفون، إذ لاتزال راسخة لدى أبناء ذلك الجيل من الذين عاشوا في عدن محاكمته الشهيرة عام 55م من قبل الانجليز على خلفية مقاله المدوي (المسيح الجديد الذي يتكلم الإنجليزية) حيث اكتظت الجماهير في مظاهرات حاشدة تضامناً مع كاتبها ما أرعب الانجليز كثيراً لهذا التأثير اللامتوقع ..وفي مقاله “عبقري الصرخة” كان باذيب يرد على الكتابات التي كانت تدعو إلى التعايش مع الحكام لتعتقله السلطات وتقدمه للمحاكمة بتهمة “إثارة الكراهية والعداء ضد الحكومة وبين طوائف وطبقات السكان” إلا انها خففت الحكم بمقابل المساندة الشعبية الهائلة التي التفت حوله.

لطالما أكد باذيب أن تسمية الجنوب العربي هي تسمية استعمارية.. ولقد استمر يقارع الاستعمار البريطاني في الجنوب ببسالة الكلمة الشجاعة الحرة.. بينما كان من ابرز الداعمين للثورة في الشمال 62م إذ تجلى ذلك في تحشيده لمختلف التبرعات الى مجلس قيادة الثورة في صنعاء، ثم كان من أهم القادة المثقفين غير المسلحين لحركة الكفاح الجنوبي ضد الاستعمار63م .وفي العام 63م تحديداً اعتقل عبدالله باذيب مع عدد من العناصر الوطنية القيادية البارزة إثر حادث إلقاء قنبلة في مطار عدن على المندوب السامي البريطاني وبعض السلاطين ،حتى أفرج عنهم جميعاً تحت ضغط الرأي العام المحلي والدولي .

يقول رفيقه المفكر اللبناني البارز كريم مروة إن “عبدالله باذيب واحد من كبار رجالات الحركة الوطنية في الشطر الجنوبي من اليمن. رافق هذه الحركة منذ بداياتها في أول خمسينيات القرن الماضي عندما بدأت تتبلور في صيغة نضال من أجل الاستقلال عن السيطرة البريطانية، وتوحيد السلطنات التي كانت بريطانيا قد أنشأتها بهدف تقسيم اليمن الجنوبي” مضيفاً: “وقاده تطور فكره السياسي إلى اعتناق الاشتراكية. وكان في ذلك الخيار الفكري سبّاقاً، فقد كان الأول بين رفاق دربه في الحركة الوطنية الذي اختار الاشتراكية فكراً ونهجاً وأسلوب نضال لتحقيق الأهداف الوطنية التي كان جيل تلك الحقبة مهموماً بها”.

والشاهد أن التاريخ الصحفي والأدبي والفكري والسياسي لباذيب يمتد إلى عام49م حين اسس مجلة المستقبل .. كما ظل يتنقل بين صحف ومجلات عديدة خلال تلك الفترة ليخرج منها لاسباب سياسية أو لغلقها من قبل السلطة ومنها “البعث” و”الفجر” و”الجنوب العربي” و”النهضة” حيث كانت الصحافة العدنية مرموقة جداً وقتذاك بل تكاد تتفوق على مثيلاتها في بيروت والقاهرة مثلاً .. ثم في العام 59م حين عاش في مدينة تعز هارباً من بطش الانجليز وفتح هناك أول مكتب لتحرير الجنوب اليمني أصدر صحيفة الطليعة كأسبوعية سياسية كانت ذائعة الصيت كما كانت مجمع القوى الوطنية بلا استثناء لكن الامام أحمد سرعان ما أصيب بالذعر لصوتها الوطني الصادح فقرر إغلاقها.

عقبها عاد عبد الله باذيب إلى عدن لكنه لم يهدأ أبداً حيث أنشأ ندوة (أنصار الأدب الجديد) كما أسس جبهة (الكُتّاب الأحرار) التي كانت تضم نخبة الثقافة اليمنية ويقول التاريخ: إن معارك باذيب الأدبية كانت استثنائية في مناصرتها للجديد وصدامها مع التقليدي تماماً كشخصيته .. شخصيته الفارقة التي جعلته يبادر إلى تأسيس حزب اتحاد الشعب الديمقراطي العام 61م.

ولقد جاء في مقدمة الميثاق الوطني للحزب الجديد – كما يورد مروة -بأن الحزب “يناضل من أجل إنجاز مهمات حركة الشعب اليمني الهادفة إلى التحرر الوطني والوحدة اليمنية والديمقراطية ومن أجل الإسهام بقسطنا في بناء الوحدة العربية الشاملة على أسس صحيحة متحررة، ويستند الاتحاد في تحديد مهمات هذه الحركة إلى واقع بلادنا وخصائص ظروفها وطبيعة المرحلة التاريخية التي تمر بها، ويسترشد بمبادئ الاشتراكية العلمية كدليل للعمل. فهي حركة وطنية شعبية ديمقراطية معادية للاستعمار والاقطاع والرجعية المحلية. وهي بالضرورة ضد التجزئة المفروضة على شعبنا” وأشار الميثاق إلى أن الاستعمار “هو العدو الأساسي والأشد خطراً. وضد هذا العدو الذي يحتل الجنوب ويهدد استقلال الشمال ويرعى جميع قوى التخلف في بلادنا ويعوق لقاء وانطلاق شعبنا في كل اليمن، يجب أن نشدد الكفاح، وإليه يجب أن تتجه الضربة الرئيسية” كما أشار الميثاق إلى أن ركائز الاستعمار في الجنوب هي “قوى سياسية معينة وسلاطين وحكام إقطاعيون”. وأشار، في الوقت عينه، إلى الأوضاع الشاذة في الشمال حيث “يعيش شعبنا محروماً من أبسط الحريات الديمقراطية وأدنى شروط الحياة المتقدمة الكريمة، وتنعدم في ظل هذه الأوضاع ضمانات صيانة الاستقلال، بل يغدو هذا الاستقلال السياسي شكلياً يخفي تحته أشد ألوان التبعية الاقتصادية للشركات الاستعمارية والاحتكارات الأجنبية”.

بحسب مروة أيضاً فقد “ كان هم باذيب الأساسي، بعد أن أسس حزبه الجديد، ينصب على العمل من أجل تحقيق الجبهة الوطنية الديمقراطية الواسعة التي لا تستثني أي فصيل من الفصائل الوطنية المعادية للاستعمار. ولم يكتف بالعمل لتوسيع قاعدة حزبه الجديد، بل هو عمل مع رفيق عبدالله السلفي إلى تشكيل تنظيم للشباب، وقام هذا التنظيم بعمل واسع متعدد الأشكال في وسط الشباب. وكان متميزاً. وعندما قامت الثورة في عام 62م في الشطر الشمالي من البلاد، بقيادة عبدالله السلال وبدعم من الجمهورية العربية المتحدة، الثورة التي أطاحت بنظام الإمامة، سارع حزب الاتحاد الشعبي الديمقراطي إلى إعلان تأييده للثورة، ودعا الجماهير في الشطرين إلى الالتفاف حولها، كما دعا إلى حملة تطوع بين الشباب في الجنوب للانتقال إلى الشمال من أجل الدفاع عن الثورة ضد أعدائها في الداخل والخارج، وسرعان ما تركت الثورة أصداءها في الشطر الجنوبي. فقامت ثورة الرابع عشر من أكتوبر بقيادة «الجبهة القومية»، وكانت مسلحة، فأعلن عبدالله باذيب باسم حزبه تأييده للثورة وانضمامه إلى صفوفها. ونظراً للظروف الداخلية والعربية التي حالت دون قيام العلاقات المباشرة بين تنظيم الثورة والاتحاد الشعبي الديمقراطي، فور انطلاق الثورة، قرر عبدالله باذيب ورفاقه تجميد العمل باسم تنظيمهم سعياً منهم إلى التغلب على تلك الظروف، وإزالة موانع الالتقاء، وتسهيل إمكانية التلاحم مع التنظيم القائد للثورة. وكان هذا الموقف منسجماً تماماً مع المواقف المبدئية والعملية التي اتسمت بها قيادة عبدالله باذيب للاتحاد الشعبي الديمقراطي، والتي لم تكن تعرف التعصب الحزبي الضيق، بل كانت تعطي المصلحة الوطنية العليا الاعتبار الأول، وكان هذا الموقف استشرافاً عميقاً وبعيد المدى لآفاق المستقبل، إذ أثمر بالفعل وبسرعة كثيراً عن أشكال العمل المشترك على الصعيدين السياسي والجماهيري، لا سيما في الحركة العمالية”.

بعد اندلاع الثورتين كان باذيب اسس مجلة الامل العام 65م فيما قامت قوى مضادة بإحراق مطبعتها الخاصة . ولعل كل من تناولوا سيرة الرجل يتفقون في أنه “منذ الأيام الأولى للاستقلال لم يكف عن التحذير من أية محاولة للاستئثار بالعمل الوطني واحتكار العمل السياسي، كما فعلت عدد من «الحركات الثورية» في بعض دول العالم الثالث، الأمر الذي أعاق تطور الثورة في تلك البلدان في الاتجاه الصحيح. وبالفعل حدث ما كان يتوقعه عبدالله باذيب عندما حاول عدد من القادة العسكريين مع بعض العناصر في التنظيم الحاكم للاستحواذ على السلطة واعتقل جَراء هذه المحاولة باذيب مع عدد كبير من قادة اليسار في التنظيم الحاكم, غير أن الحركة فشلت في تحقيق أهدافها وأفرج عن جميع المعتقلين”.

والثابت ان باذيب “عاني من الصراع الموجود بين اليسار واليمين في الجبهة القومية فقد تعرض لمحاولة اغتيال قبل عملية اعتقاله ، حيث رمت عناصر قنبلة قرب منزله في شعب العيدروس كريتر وكان على سيارته عائداً هو وأخوه إلى المنزل من السوق، لكن القنبلة لم تصل إلى السيارة وانفجرت بعيداً عنها، وكانت أخته قد شاهدت الحادثة فأبلغت أمها التي أصيبت بشلل عندما سمعت الخبر. وإذ نجا عبدالله باذيب من محاولة الاغتيال إلا أن العملية تركت في نفسه أثراً كبيراً”.

على أن عبد الله باذيب الذي كانت قضيته الاولى تنمية الوعي ضد التخلف استحق بالاجماع ان يكون وزير التعليم فوزير الثقافة بالجنوب عقب الجلاء البريطاني ونجاح الثورة إذ “ تولى باذيب وزارة التربية والتعليم في نهاية عام 69م ، وخلال توليه الوزارة أسهم في حل عدد من المشكلات المتعلقة بالتعليم الأهلي وألحقه بالوزارة من حيث الإشراف والتوجيه وأعفى طلبته من الرسوم . كما تحققت للمدرسات إجازة الولادة مدفوعة الأجر ، وأنشئت الإدارة العامة لمحو الأمية وتعليم الكبار ، وتأسست أول كلية للتعليم العالي وهي كلية التربية العليا التي غدت فيما بعد نواة جامعة عدن “ .. كذلك في عام 72م “عين عبدالله باذيب وزيراً للثقافة والسياحة التي كانت مجرد إدارة صغيرة للثقافة وخلال فترة قصيرة تحولت هذه الإدارة إلى وزارة وصار لها كثير من المشاريع في مجالات الآثار والدورات الأكاديمية والفنون بمختلف أنواعها ، وفي عهده أنشئ لأول مرة المسرح الوطني وأول معهد للموسيقى والفنون الشعبية . كما أصدر مجلة “الثقافة الجديدة” باسم الوزارة “وجعلها منبراً للمثقفين في ميادين إبداعهم وبتياراتهم المختلفة. وتعددت مبادراته في الميدان الثقافي، فغطت كل مجالاته، وبدأت تصدر الكتب بغزارة، في شتى مجالات الإبداع، بتشجيع من الوزارة”.

في 16 اغسطس 76م رحل عبد الله باذيب على نحو مفاجئ صادم عن عمر 45 عاماً ، وفي العام 78م تم انعقاد المؤتمر التأسيسي للحزب الاشتراكي اليمني.

لكن يمكن اعتبار أن عبد الله باذيب هو الملهم الحقيقي لتأسيس هذا الكيان باعتباره توقه الأول ونظراً لاشتغاله النظري والعملي الرائد من اجله خلال كل تاريخه الحافل. فالمعروف ان الحزب الاشتراكي تكوَّن بناء على توحد ثلاث فصائل يسارية من جنوب الوطن وخمس فصائل يسارية من شماله. بينما كان الموقعون الستة في اكتوبر 75م على وثيقة التوحيد من الجنوب في إطار التنظيم السياسي الموحد للجبهة القومية على طريق الحزب الطليعي من طراز جديد, هم: أنيس حسن يحيى وسعيد الخيبة ـ عن الطليعة الشعبية وعبدالفتاح اسماعيل وسالم ربيع علي عن “الجبهة القومية” وعبدالله باذيب وأحمد سعيد باخبيرة عن “الاتحاد الشعبي الديمقراطي”.

إثر ذلك بالطبع تم قيام التنظيم السياسي الموحد وأنتخب عبدالله باذيب عضواً في لجنته المركزية والمكتب السياسي وسكرتيراً للثقافة والإعلام. وعلى مستوى الشطر الشمالي من الوطن تم تشكيل الجبهة الوطنية الديمقراطية من فصائل اليسار الخمس (الحزب الديمقراطي الثوري اليمني، وحزب الطليعة الشعبية، والاتحاد الشعبي الديمقراطي ، وحزب العمل اليمني ومنظمة المقاومين الثوريين اليمنيين) وصولاً الى عقد المؤتمر التأسيسي للحزب الاشتراكي اليمني في الفترة 11-15 أكتوبر 1978م، إذ في الشمال وعلى إثر فصائل اليسار الخمس قام حزب الوحدة الشعبية اليمني بتاريخ 8 مارس 1979م كفرع للحزب الاشتراكي اليمني، وانتخب الشهيد جار الله عمر سكرتيراً له وهو عضو المكتب السياسي بالحزب الذي تكون من الشمال والجنوب كما هو معروف . وعلى خطى ما حلم به القائد الاشتراكي الكبير عبد الله باذيب ووضع لبناته الأولى.

نشير أيضاً إلى أن باذيب كان من القادة البارزين لحركة لسلم العالمي حيث “كان وراء تشكيل أول لجنة يمنية للسلم والتضامن، واختير – في العام نفسه – عضوًا بمجلس السلم العالمي، ثم انتخب عام 1974 عضوًا في الهيئة الرئاسية للمجلس؛ تتويجًا لدوره البارز في النضال من أجل مثل السلم والتحرر والتقدم”.

وبالمحصلة نقول: إن كل المهتمين بتا يخ الحركة الوطنية في اليمن يعتبرون باذيب واحداً من أهم وأرفع الاسماء في حركة التنوير والتقدم الوطنيين هنا.. لكن من المؤسف ان كتاباته ذات المواقف الرائدة لم يتم تجميعها كإرث قدير للاجيال القادمة حتى الآن مع أن له عدة مقالات مرموقة بعنوان: «توابل» صُدرت عن مؤسسة 14 أكتوبر في عدن العام 77م بعد وفاته بعام ، كما له مؤلف بعنوان: «كتابات مختارة» (جزآن) – دار الفارابي – بيروت العام 81م.

اما بتعبير كريم مروة فإن من الحظ الكبير لباذيب” أنه لم يعش ليرى كيف ساهم رفاق الأمس في تدمير تجربتهم في أعقاب أحداث عام 86م الدامية، التي تقاتل فيها الرفاق داخل هيئاتهم القيادية، في المكتب السياسي واللجنة المركزية، وهي الأحداث التي أودت بحياة عبدالفتاح إسماعيل وعدد من كبار قادة البلاد. وكانت قد سبقتها تصفيات جسدية طالت قياديين بمن فيهم رئيس الدولة السابق سالم ربيّع علي. والحديث يطول، وربما كان بوسع عبدالله باذيب، لو عاش، أن يحول دون تلك المجازر المتكررة، أو ربما كان سيكون أحد ضحاياها”.

إغلاق