أخبار العالم

نيوزيلندا: جاسيندا أرديرن.. رئيسة حكومة من “فولاذ” تسحر وسائل الإعلام

كانت مذبحة مسجدي كرايستشيرش في نيوزيلندا، والتي أودت بحياة 50 مصليا مسلما أعزل، من أقسى وأعنف الأحداث التي مرت بها البلاد في تاريخها الحديث. لكن رئيسة وزرائهم جاسيندا أرديرن كانت مثالا للحكمة والتواضع والهدوء والتعاطف والتماسك الفولاذي في تعاملها مع هذه الأزمة، التي هزت نيوزيلندا والعالم. فمن هي جاسيندا أرديرن؟

جذبت رئيسة الوزراء النيوزيلندية جاسيندا أرديرن، 39 عاما، أنظار العالم في 21 يونيو/حزيران العام 2018 عندما أعلنت ميلاد مولودتها الجديدة من مكتبها بمقر رئاسة الوزراء، وكان اسم المولودة أشد جذبا للأنظار، حيث أطلقت عليها اسم نيف تي أروها، وهو اسم مركب نصفه إيرلندي ويعني منير أو براق، ونصفه ماوري يعني الحب [وهو اسم يعود للسكان الأصليين لنيوزيلندا]، في لفتة تشيد بها بثقافة السكان الأصليين للبلاد.

وبعد ثلاثة أشهر من هذا الحدث ذهبت بطفلتها إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك في سابقة هي الأولى من نوعها، والتقطت لها مئات الصور وهي تقوم بإرضاعها من ثدييها ما أعطاها دورا كبيرا في الحركة النسوية، وأظهرها كرمز عالمي لهذه الحركة، حتى أن وسائل الإعلام سكت مصطلحا يعبر عن مدى الشغف بحالتها والانجذاب إليها، ألا وهو مصطلح “الشغف بجاسيندا” [Jacindamania].

ظهور جاسيندا على مسرح الأحداث

ظهرت جاسيندا على مسرح الأحداث في بلادها عندما لعبت جاذبية شخصيتها ومغناطيسيتها دورا كبير في اختيار حزب العمال لها، كزعيمة له في الأول من أغسطس/آب العام 2017، لتقوده في الانتخابات العامة التي جرت بعد سبعة أسابيع من اختيارها. وبالفعل كانت جاسيندا فوق مستوى التوقعات، وقادت الحزب لفوز استعادت به السلطة رغم فوز القوميين بعدد أكبر من المقاعد في البرلمان، ولكنه لم يكن كافيا للحصول على الأغلبية.

أظهرت جاسيندا الكثير من المواقف التي تدعم السياسات الاجتماعية والمحافظة على البيئة، كان آخرها من شهرين في منتدى دافوس العالمي للاقتصاد في سويسرا، حين أشادت أمام أغنى أغنياء العالم بجهود مكافحة التغير المناخي وظاهرة الاحتباس الحراري، وطالبت بأخذ البعد الاجتماعي للتطور في الحسبان وليس فقط البعد الاقتصادي. وهاجمت سياسات الحمائية الجديدة والعزلة التي يريد أن يفرضها على العالم قادة مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وفي توبيخ مهذب لهذا الأخير، قالت جاسيندا إنها تأمل أن يعترف قادة العالم بفضيلة السياسات المحلية “الأكثر تعاطفا”.

جاسيندا بالحجاب الأسود

لكن جاسيندا كانت على موعد آخر، مع العالم، لكنه موعد أكثر عنفا وحزنا. كان هذا الموعد يوم الجمعة الماضي 15 مارس/آذار عندما فتح متطرف، يؤمن بتفوق العرق الأبيض، النار على المصلين المسلمين العزل في مسجدين بمدينة كرايستشيرش، مخلفا خمسين قتيلا من الرجال والنساء ومن بينهم طفل يبلغ الثالثة من العمر. وهنا ظهرت جاسيندا كوجه معبر عن ألم وحزن وأيضا تصميم الأمة النيوزيلندية بأكملها.

مسجد النور في كرايستشيرش الذي وقع فيه الهجوم
مسجد النور في كرايستشيرش الذي وقع فيه الهجوم ملكية عامة – موقع ويكيبيديا

كانت جاسيندا رمزا في التعبير عن الهدوء والتعاطف الذي أظهرته في أعقاب أسوأ حادث قتل جماعي في تاريخ بلادها. فشكلت وفدا من شخصيات من مختلف الأحزاب وقادته من العاصمة ويلينغتون إلى مدينة كرايستشيرش، مرتدية حجابا أسود لإظهار حزنها وتعاطفها وحدادا على أرواح الضحايا الذين سقطوا في الهجوم وتعزية لأقاربهم. كما أعلنت تغطية الدولة لكافة مصاريف وكلفة جنازات ودفن جميع الضحايا.

كان أداؤها استثنائيا بكل المقاييس، استحقت به إشادات كثير من المراقبين والمتابعين ومنهم المعلق السياسي برايس إدواردز، من جامعة فيكتوريا في مدينة ولينغتون، حيث قال لرويترز: “كان أداء جاسيندا رائعا وأعتقد أنه سيتم الإشادة به محليا وعالميا”.
ولم تتوقف جهود جاسيندا على مجرد التعاطف بل تخطتها إلى التنديد بالأيديولوجية القومية وأفكار تفوق العنصر الأبيض، تلك الأفكار التي كانت الدافع وراء ارتكاب المذبحة. وتحدثت عن القيم الأصيلة للمجتمع النيوزيلندي، التي تمثل “التعدد والتنوع والطيبة والتعاطف” وعن بلادها التي تعد “ملجأ لأولئك الذين يحتاجون إليها ومأوى لمن يشاركها قيمها”. تلك القيم التي لن تهتز ولا يمكن لها أن تهتز جراء “هذا الهجوم الوحشي”، حسب تعبيرها. وذهبت بعيدا في تصريحاتها، حيث قالت “إن هؤلاء الضحايا هم ’نحن‘ وأن القاتل ’ليس كذلك‘”. وتوجهت إلى القاتل بقولها “ربما تكون أنت قد اخترتنا، ولكننا نرفضك وندينك تماما”.

الإعلان عن إجراءات جديدة للحد من انتشار الأسلحة

انتقلت جاسيندا بسرعة إلى الجانب العملي من الموضوع، وقالت إنها ستغير قوانين حيازة الأسلحة في بلادها وإن الحكومة ستعلن عن خطط جديدة تجعل “المجتمع أكثر أمانا من ذي قبل”. تدابير جديدة ستشمل تقييدا وحظرا كاملا على بيع الأسلحة نصف الآلية ذات الطرز العسكرية والتي استخدمت في الهجوم على المسجدين. ومن المحتمل أن تشدد قوانين الحصول على الأسلحة الفردية وفرض استصدار تراخيص لحملها. ومن المعروف أن نيوزيلندا، كما الولايات المتحدة الأمريكية، من بين الدول القليلة على مستوى العالم التي لا تفرض قيودا على شراء أو بيع أو تسجيل الأسلحة.

بالطبع ليست جاسيندا شخصية أسطورية خرجت لتوها من عالم القصص والروايات المليء بالساحرات والجنيات، ولا تلقى أفعالها وأعمالها استحسانا وقبولا من الجميع. فالكثير ينتقدونها على غياب الإنجازات السياسية الفعلية ويتهمونها بأنها تروج لأحلام وردية لا يمكن لها أن تجدا طريقا للتحقق على أرض الواقع. كما أنها ولا شك ستثير غضب الكثير من القادة في العالم الغربي بعد رفضها مواقف التقليل من خطر الإرهاب الأبيض ودعوتها دونالد ترامب إلى إظهار تضامنه علانية مع “جميع المجتمعات المسلمة”، وهي الدعوة التي لم يرد عليها البيت الأبيض بإيجابية إلى الآن.

لكن هذه المرأة أظهرت بلا شك أصالة معدنها مقارنة بقادة نساء أخريات، فقارنتها صحيفة الغارديان البريطانية مع رئيسة الوزراء تيريزا ماي، التي لا تزال تتخبط في ملف البريكسيت، بقولها: “من أي معدن قدت هذه المرأة؟ أمن الفولاذ؟ حقا ففي أحلك اللحظات تظهر معادن الناس، واليوم رأينا الفولاذ الحقيقي”.

إغلاق